حكاية الهدهد الأسود

2021.06.26 | 05:55 دمشق

african_hoopoe_upupa_africana_16277761817.jpg
+A
حجم الخط
-A

بحث الهدهد طويلًا عن ذي ريش من جنسه يصاحبه أو أنثى يتزوجها، فلم يجد، انقرض الهداهد جميعًا، أو ماتوا أو نزحوا أو انتحروا. رأى أخبارًا كثيرة في شريط الأخبار في أسفل الشاشة عن طيور تنتحر بالجملة والمفرّق، ولا يجد العلماء لها تفسيرًا.

مات أكثرهم بقانون الطوارئ والأحكام العرفية تحت التعذيب في المعتقلات. اعتُبر هذا الطائر المظلوم من الإخوان المسلمين وله لحية فوق رأسه، لأنه طائر النبي سليمان عليه السلام ورسوله بالحق، ويقابل الكاردينال عند الروم.

قرأ الهدهد مقالات لكتّاب كثيرين يحرّضون النظام على استئصاله، لأنه يدلُّ الناس على المياه، فيهربون من دفع الفواتير لشركة المياه التي تبيعهم الهواء، ويهرِّب الرسائل إليهم بأخبار من الصحف العالمية، ويغرّد على صفحته تغريدات جعلت مارك يحظره، وتويتر تضع إشارات تحذيرية له.

مات كل أبناء قبيلته، وبات وحيدًا ومسكينًا. ساد الغربان الذين جعلهم هيتشكوك أبطالًا لفيلمه: الطيور، فهو طائر الموت، وساد أشباه الغراب من البوم، وانتشرت نسور الجيَف، فعزم على أن يخلع ثوبه الجميل. وقف أمام المرآة وتأمل ثوبه، وتاجه، وألقى عليهما نظرة الوداع الأخيرة، فخلع قميصه البني، وسرواله المنقط المنتظم مثل بيت على البحر المتقارب، وعزم على حلاقة قنزعته التي استعار منها الهنود تيجانهم الريش، والرومان خوذاتهم الجميلة، فحلقها مضطرًا.

انتسب للحزب الحاكم، وقلّد النعيق، حتى حفظه وأتقنه، وخرج في المسيرات العفوية

قصد إحدى المداخن التي تنفث السخام في الشتاء، وغمر ريشه في الهباب الأسود، وبدّل قرقرته الطريبة بالنعيق، وأقنع نفسه بأن الغراب طائر مفيد، فهو الذي دلَّ ابن آدم على فنّ الدفن الكريم، فالقانون الجديد هو الاندماج التام أو الموت الزؤام، ومن ليس معنا هو ضدنا. كفَّ عن نقل الرسائل، والسياحة في الأصقاع، فهو لا يستطيع السفر، فقد انتهت مدة جوازه ويحتاج إلى تجديد، وهو أمر شبه مستحيل. وهكذا تحول من طائر الماء والسعد إلى طائر الموت والشؤم.

انتسب للحزب الحاكم، وقلّد النعيق، حتى حفظه وأتقنه، وخرج في المسيرات العفوية، ووضع لايكات لأصحاب العلم الأزرق، وتجنّب إغضاب مارك زورك بيرغ، وبالغ في نشر صور البنات العاريات، وشتم الصالحين ومدح الطالحين، وتبرأ من صحيح البخاري، وتبنّى نظرية الأرض المسطحة، وانتظر فترة حتى آنس من البوم والغربان ودًّا.

زيادة في إزالة الشبهات والاستغفار عن الماضي الآثم، تقدم لأنثى غراب، ليس ليكمل نصف دينه، وإنما ليحتمي بها من شر الأشرار، وكان عندها شقة وسيارة قديمة، وهي من مؤهلات الزواج، واستطاع الباءة أخيرًا، وعاش معها مدّة وهو ينعق، ويخرج في المسيرات الشعبية، وحصل على بطاقة ذكية، يأكل بها الخبز، وكان يقف ساعات طويلة في أقفاص منتظرًا الرغيف.

وهكذا عاش.

هي عيشة ضيق وضنك، لكنها أفضل من الموت، فالموت مرّ، وكانت زوجته الغرابة، مُنكرة الصوت، سيئة الخلق، شعثاء حيزبون، قبيحة المنظر وبعين واحدة.

أخبرته زوجته أنَّ غربان الحيّ وبومها جميعًا يعرفون أنه هدهد ممسوخ، غراب من الدرجة الثانية، مواطنته غير كاملة

جاهد في إخفاء دينه وصوته، الذي لم يكن له قيمة في صندوق الانتخابات، لكن الحياة صعبة، فقد اختصم معها يومًا، فالزواج السعيد لا يخلو من المكدِّرات، ثم إنها كشفت له في يوم غضبٍ أمرَه، وقالت له إنها تعرف أنه ليس غرابًا، وإنّه هدهد متحول الجنس إلى غراب، وتعالت عليه، وأخبرته أنها ما رضيت به إلا لأنه يخدمها، فهو يغسل ويكنس ويرمي الزبالة، ويقف على طوابير الانتظار، ويقوم بالواجب الزوجي على كره منه، وهي تعلم  أنه لا يطيقها، ومنَّت عليه أنه يعيش بفضلها وأنّها بهاتف صغير تستطيع أن تستدعي عنصرًا يأخذه إلى ما وراء الشمس، فيشتهي السكتة القلبية، فذُعر وخاف وشاب شعره، فدهن نفسه من جديد بالسخمة فاسوّدَ، فهان في عين نفسه وذلَّ. أن يكون هو أبو الربيع، أمير الطيور ورسول الملك سليمان، القُناقِن، الذي يَعرِفُ مواضِعَ الماءِ تحت الأَرض ومقدارَ الماءِ في البئرِ قريبًا أو بعِيدًا. والماء هو الحياة ويبلغ به الحال إلى ما وصل إليه.

أخبرته زوجته أنَّ غربان الحيّ وبومها جميعًا يعرفون أنه هدهد ممسوخ، غراب من الدرجة الثانية، مواطنته غير كاملة، فلهجته ليست لهجتهم، ومشيته ليست مشيتهم، وأنهم يعرفون أنه يتجنب الخروج في المطر حتى لا يزول صباغه، وينكشف دباغه، وأنهم يعرفون أنه لا يجيد مشية الغراب العسكرية، وأنّ الغراب طائر أشعث، وهو أسبل، فجلس حسيرًا كسيرًا.

ثم إنه استخار ربّه، ولم يكن بحاجة إلى استخارة، فقرر النزوح من غير جواز سفر، فاغتسل، وتطهر من الدنس، وحمل صرَّته في الفجر، وتسلل عبر الحاجز والحدود، وعاش وحيدًا في البراري البعيدة، ونمتْ قنزعته من جديد، وعاد إلى القرقرة والتحليق على السفوح.

 عاش الهدهد منذ ذلك الوقت وحيدًا و... سعيدًا.