حروب الشرق الأوسط وإشعال البحار الخمسة.. قراءة في مستقبل المنطقة 2024

2024.01.09 | 06:55 دمشق

القوات الأميركية في الشرق الأوسط
+A
حجم الخط
-A

بحار الشرق الأوسط تشتعل

هناك أحداث كُبرى غير متوقّعة حصلت، عام 2023، وجميعها تشعل ما يمكن أن نطلق عليه بحار الشرق الأوسط الخمس، وهي: البحر الأسود، البحر الأبيض المتوسط، البحر الأحمر، بحر العرب، الخليج العربيّ.

أولى هذه الأحداث الكُبرى؛ هي الحرب الروسيّة على أوكرانيا ومسرح عمليّاتها في البحر الأسود على مستوى الجيوبوليتيك؛ بعيداً عن المعارك البرّية على الأراضي الأوكرانية.

ففي الوقت الذي فشل الهجوم المضادّ الذي شنّته أوكرانيا في 8 حزيران/ يونيو 2023، رغم المساعدة الضخمة من الغرب تكبّدت فيه أوكرانيا خسائر بعشرات الألوف من القتلى، بدأت الحرب تتصاعد على الساحة الاستراتيجية في البحر والجوّ في كانون الأول/ ديسمبر 2023، من خلال إعلان القوّات الأوكرانية إسقاط ستّ طائرات حربية منها ثلاث طائرات من طراز "سوخوي-34"، ليتلو ذلك تدمير أوكرانيا لسفينة الإنزال الضخمة "نوفوتشيركاسك"في ميناء "فيودوسيا"، مما اضطر روسيا لسحب أسطولها من البحر الأسود لأول مرة منذ 240 عاماً، بعد خسارتها 20 سفينة حربية.

ثاني تلك الأحداث، هو معركة "طوفان الأقصى" التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وبشكل غير متوقع، مع استمرار الهجوم الإسرائيلي المضادّ على "حماس" لليوم المئة تقريباً.

وثالث الأحداث الكُبرى، المفاجأة المتمثلة في تجرؤ ميليشيات الحوثي في صنعاء اليمن على التدخّل عسكريًّا للردّ على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّةَ، وتحدّي الولايات المتحدة، من خلال التركيز على تعطيل الملاحة في البحر الأحمر، وما تلاه من تأسيس التحالف البحريّ الذي تقوده أميركا تحت بند حماية الملاحة في البحر الأحمر!

ورابع الأحداث الكُبرى هو تدفّق القطع العسكرية الغربية الضخمة في منطقة بحر العرب والخليج العربيّ والبحر المتوسّط. وكانت قد بدأت بشكل مكثّف في النصف الثاني من عام 2023، ثم زادت الحشود بقطع بحرية عسكرية إضافية أخرى بعد اندلاع الحرب في غزّة.

وكان مصطلح البحار الخمس في الأصل قد أُطلق على ما عُرف بـ"نظام البحار الخمسة" أو الشبكة الموحّدة للممرّات المائيّة العميقة رسمياً في روسيا الأوروبية؛ وهو مجموعة من الطرق البحريّة والنقل النهريّ بين خمسة بحار مختلفة متاخمة لروسيا في أوروبا وهي، بحر البلطيق والبحر الأبيض وبحر قزوين والبحر الأسود عبر بحر آزوف؛ ذكرنا ذلك للتنبيه على مورد انتزاع التسمية، وإشارة إلى عامل أهمّية مشترك من الناحية اللوجستية كبحار في الشرق الأوسط تنحصر بينها أهمّ منطقة استراتيجيّة تكمن عندها ملامح صدام قوى كُبرى قادم لا محالة.

واشنطن وصناعة الاستقرار الاستراتيجي

كل تحرك للولايات المتحدة الأميركية، يمكن تفسيره في ضوء المواجهة الكبرى التي أعلنت عنها الإدارة الأميركية تجاه الصعود الصيني الذي بات يشكل تهديدا كبيرا للغرب؛ ومن ذلك قضايا التجارة الدولية، وحرية الملاحة البحرية التجارية في المحيط الهادئ من سواحل الولايات المتحدة الأميركية وصولا إلى المحيط الهندي وحتى سواحل إفريقيا والشرق الأوسط.

بالإضافة إلى قضايا تتعلق بالأمن السيبراني وطبيعة الانتقال العالمي باتجاه الثورة الصناعية الثالثة فالرابعة بشكل متسارع؛ جميع ما سبق يدفع القوى الغربية للتحرّك استراتيجيًّا في منطقة الشرق الأوسط الأكثر اشتعالا في العالم.

بدأت الصين تتقدم بشكل كبير لتتفوّق على كل من روسيا والولايات المتحدة، وبدأت يظهر موطئ قدمها في منطقة الشرق الأوسط بشكل يُقلق واشنطن، التي بدأت تتحرّك منذ وقت مبكّر، وبأكثر من اتجاه كاحتواء الاقتصاد الصيني المرعب الذي يجتاح العالم كلّه بمشروع الحزام والطريق، والسياسة المالية الاقتصادية لحكومة الصين الشعبية.

وهنا يبرز التحرّك الأميركي الاستراتيجيّ من خلال إنشاء تحالف (AUKUS) وتوسعته بإطلاق حوار (QUAD) مع اليابان والهند في تحركات متسارعة بشكل كبير تهدف إلى حصار الصين من البحر واحتوائها، ثم أخيرا الاتفاق المهمّ بين وزارتي الدفاع والخارجيّة للولايات المتحدة والهند "2+2" في العاصمة نيودلهي يوم 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، شملت تكنولوجيا التحديات البحرية، والتطوير والإنتاج المشترك لأنظمة النقل البرّيّ، وصيانة الطائرات والاستثمارَ في صيانة وإصلاح وتجديد الطائرات الأميركية والمركبات الجوية من دون طيار في الهند، وأمن سلاسل التوريد، وتأسيس قواعد اتّصال جديدة بين القوّات المسلّحة في البلدين، ودخول الهند عضواً في القوّات البحريّة المشتركة متعدّدة الجنسيّات.

تسعى واشنطن من خلال هذه التحركات إلى تحقيق استقرار استراتيجي من خلال تشكيل طاولة متعددة الأطراف تشمل الاتحاد الروسي وتركيا وإيران والسعودية ومصر، بهدف زيادة الضغط على الصين وتحفيز تغيير جذري في المشهد الجيوسياسي غربي الصين. والهدف هو الضغط على بكين للالتزام بالتفاوض مع الغرب وقبول التحول نحو اتجاهاته والمشاركة في مفاوضات تخدم مصلحة الاحتواء الغربي.

الأداء التركيّ المتميّز لمواجهة التحدّيات

بقيت أنقرة صامتة رغم عضويتها في حلف الناتو إلى وقت قريب. ثم دشّن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التحركات التركيّة بدعوة الرئيس الروسيّ لزيارة تركيا، ثم أعلنت بعدها الحكومة الروسيّة قبول الدعوة دون تحديد وقت محدد لها.

تمثل الجغرافيا الأوكرانية قضيّة متعلّقة بالأمن القوميّ التركيّ، وترفض تركيا أي تعدّ على الأراضي الأوكرانية من قبل روسيا، ولها موقفٌ واضح تجاه ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، كما أن أنقرة لم تتردد كما هو الحال مع بعض الدول الأوروبية بخصوص تسليح أوكرانيا ودعمها بتنكولوجيا المسيّرات التركيّة كسلاح استراتيجيّ ميدانيّ في أي مواجهات مستقبلية محتملة.

وقد صرّح الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان عقب زيارتٍ لأوكرانيا قائلاً: "بايدن لم يُظهر حتى الآن نهجا إيجابيا لحل التوتر الروسي الأوكراني، ثم عرْض أنقرة للوساطة".

وتدرك تركيا أن حدودها الشمالية والجنوبيّة والشرقية تشتعل بالأزمات الكُبرى، الأزمة الأوكرانية، والأزمة السورية والعراقية، ومسألة القواعد العسكرية الأميركية في الأرخبيل اليوناني، التي تهدد مصالحها وحقوقها بالغاز في شرقي المتوسط.

لذلك ترتكز التحرّكات التركيّة في جميع قضايا المنطقة باتجاه التهدئة وحلّها بالأساليب الدبلوماسية، ومحاولة الاستفادة من هوامش الاختلاف والصدوع البادية في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبيّ.

استدارة سعوديّة باتجاه الشرق (أولوية رؤية 2030)

قبل يومين أكد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، على أن نهج المملكة "ثابت وقائم على احترام السيادة الوطنية لجميع الدول، وحل النزاعات سلميا، والالتزام الدائم بمبادئ الشرعية الدولية وقراراتها".

يختصر هذا التصريح تحرّكات الرياض، خلال العام 2023، ففي مارس/ آذار، أعلنت المملكة العربية السعودية وإيران، في خطوة مفاجئة، استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، وإعادة فتح سفارتي البلدين وممثلياتهما برعاية صينية، وعملت على تطوير العلاقات مع أنقرة، ونأت بنفسها عن جميع الصراعات من خلال إنهاء مهام التحالف العربي الذي أنشئ لمواجهة التهديد الحوثي للمملكة، واتخاذ دور الراعي لاتفاق سلام في اليمن، بالإضافة إلى محاولات يائسة لإعادة الاستقرار إلى منطقة الشام، خاصّة في سوريا، وباءت جميعها بالفشل بسبب تعنّت نظام الأسد، ورفضه الانصياع لنهج الخطوة مقابل خطوة.

سيناريوهات المنطقة في ظل عسكرة الشرق الأوسط

يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية تسعى إلى إشعال الشرق الأوسط وافتعال الأزمات بمزيد من الصراعات في البحار الخمس؛ سعياً لتحقيق مصالحها وأهدافها من خلال خطة الاستقرار الاستراتيجي التي تحدّث عنها بلينكن في عدّة مناسبات، لإرضاخ الصين واحتوائها.

أحد السيناريوهات المحتملة، اندلاع حرب إقليمية قد تتحوّل إلى حرب عالميّة. حيث تَجهد دول المنطقة كتركيا ودول مجلس التعاون الخليجي ومصر إلى منع ذلك بأي ثمن من خلال تحرّكات على عدّة مسارات، بغية الوصول إلى طاولة مفاوضات كُبرى تجنّب المنطقة حرباً مجلّية، وتؤسس لاتّفاق القوى الدوليّة على ترتيبات النظام العالمي الجديد قيد التأسيس.