icon
التغطية الحية

حرب باردة جديدة يمكن أن تسخن قريباً

2022.05.05 | 19:56 دمشق

وزيرا الدفاع والخارجية الأميركيين برفقة رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي في نيسان 2022
وزيرا الدفاع والخارجية الأميركيين برفقة رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي في نيسان 2022
فورين أفيرز - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

خلال الأسابيع العشرة لبدء الغزو الروسي على أوكرانيا، تعاظم التوتر بين روسيا والدول الغربية ليبلغ أعلى مستوى له منذ أزمة الصواريخ الكوبية، فقد اتهم الرئيس الأميركي جو بايدن نظيره الروسي فلاديمير بوتين، القائد الأعلى للقوة العظمى المسلحة نووياً، بارتكاب "إبادة جماعية"، كما وصفه بأنه: "مجرم حرب"، وأعلن أنه "لا يمكن أن يبقى في السلطة"، وبحسب ما ورد على لسان وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، فإن الولايات المتحدة تسعى اليوم "لإضعاف روسيا" لدرجة تصبح معها تلك الدولة غير قادرة على تهديد جيرانها بعد اليوم، في حين وصفت ليز تروس وزيرة الخارجية البريطانية الحرب في أوكرانيا بأنها: "حربنا"!

أما بقية الزعماء والقادة الأوروبيين فقد أبدوا تحفظاً وحذراً أكبر في انتقائهم لمفرداتهم، إلا أن موقفهم المعادي للعدوان الروسي كان واضحاً، فقد وصفت أورسولا فون دير لين رئيسة المفوضية الأوروبية العدوان الروسي بعد زيارتها لمدينة بوتشا في مطلع شهر نيسان بأنه عدوان: "فظيع ولا يمكن لعقل أن يصدقه، وصادم"، وذلك لأن هذا النزاع وضع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ضمن حالة الجاهزية العسكرية القصوى ولهذا أكدت كل دولة من تلك الدول على مخاطر اعتماد أوروبا على روسيا فيما يتصل بأمر الطاقة. وهكذا تلاشت حالة السكوت عن استعداد بوتين لاستخدام القوة ولتحويل التجارة إلى سلاح، كما اختفت حالة رفض قبول أوكرانيا ضمن أسرة الاتحاد الأوروبي، فيما حشد حلف شمال الأطلسي الآلاف من جنوده بالقرب من الحدود الروسية، وستنضم كل من فنلندا والسويد لهذا الحلف في مساعيه قريباً.

وفي تلك الأثناء، قام قادة روسيا بتغيير تأطيرهم للحرب بشكل كبير، إذ تحولت تلك الحرب من "عملية خاصة" محدودة، إلى عملية "تحرير" لأجزاء من شرقي أوكرانيا، ومن ثم إلى صراع وجودي شامل ضد حلف شمال الأطلسي. فقد اتهم بوتين الولايات المتحدة وغيرها من الدول بمحاولة "تدمير روسيا من الداخل"، وفي مناسبات عديدة، هدد قادة روس بنشر أسلحة نووية ضد أي دولة تتجرأ على التدخل في هذا النزاع.

إلا أن تلك التطورات بمجملها تمثل حقيقة جديدة خطيرة، فقد انقضت تلك الأيام التي كان فيها هدف روسيا من تلك الحرب هو تطهير أوكرانيا من النازية ونزع سلاحها، كما انقضت تلك الأيام التي اقتصر فيها التدخل الأميركي وتدخل الدول المتحالفة مع أميركا على مساعدة أوكرانيا في الدفاع عن سيادتها ووحدة أراضيها، وذلك بعد قيام القادة من كلا طرفي النزاع بتجاوز سلسلة من الخطوط التي لا يمكن تجاوزها بسهولة، والنتيجة هي حرب باردة جديدة بين روسيا وخصومها، تلك الحرب التي لن تعم العالم بأسره كما فعلت سابقتها التي قامت في القرن العشرين، إلا أنها ستضعف استقراره وستدمر مستقبله.

حرب باردة جديدة

إن التنافس الذي ظهر بين روسيا والولايات المتحدة قد يزيد خطره وينقص مقارنة بالتنافس التاريخي الذي سبقه في الماضي، إلا أن خطر هذا التنافس سيكون أقل بما أن روسيا، بالرغم من الترسانة النووية التي تمتلكها وثرواتها ومواردها الطبيعية الغنية، أصبحت تمثل تهديداً عسكرياً أقل قوة بالنسبة لواشنطن، مقارنة بما كان عليه الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية، ثم إن غزو بوتين لأوكرانيا، قدم للولايات المتحدة والمسؤولين المتحالفين معها نظرة عن كثب على أهم العيوب العسكرية التي تعاني منها موسكو. ونظراً للفشل الذريع الذي منيت به العملية العسكرية الروسية في بداياتها عندما استهدفت كييف، فإن الخسائر الكبيرة التي تكبدتها موسكو في ساحة القتال مقارنة بما تكبدته القوات الأوكرانية التي تفوقها عدداً وعدة، والمليارات التي صرفتها روسيا على تحديث جيشها طوال العقد الماضي، إما ذهبت هباء منثوراً، أو سرقت، أو تعرضت للحالتين معاً.

وعلى القدر ذاته من الأهمية يأتي حجم الاقتصاد الروسي، إذ بالرغم من عائدات النفط والغاز، بقي هذا الاقتصاد أصغر من حجم اقتصاد مدينة نيويورك وحدها ساعة الغزو. كان ذلك قبل أن تفرض الولايات المتحدة وحلفاؤها عقوبات على روسيا، ما أدى لحدوث انكماش اقتصادي اليوم يتراوح ما بين 10 إلى 15% خلال عام 2022، لذا من المحتم لحالة الركود هذه أن تحد من قدرة روسيا على إخضاع غيرها من الدول من خلال قوتها الاقتصادية، وبالمقارنة مع الاقتصاد الموجه للاتحاد السوفييتي الذي عزل البلاد عن الحرب الاقتصادية، نجد بأن روسيا في عهد بوتين أصبحت تعتمد بشكل أكبر على التجارة والاستثمارات الأجنبية، وهذا ما جعل البلاد تعاني وهي تحاول تسديد ديونها للدول الأخرى. وبكل تأكيد، يمكن لروسيا أن تستخدم حالة الاعتماد المتبادل كسلاح يخدم مصالحها، وهذا ما حدث مؤخراً عندما منع الكرملين وصول صادرات الغاز إلى بلغاريا وبولندا. ولكن في الوقت الذي يمكن فيه لأوروبا، بل لا بد لها، من أن تبقى وتنجو بعد انفصالها عن روسيا، تصبح الخيارات الاستراتيجية أمام موسكو محدودة جداً.

خلال القرن العشرين، استطاع الاتحاد السوفييتي كسب أصدقاء حقيقيين بفضل جاذبية إيدلوجيته وعقيدته التي أعجب بها كثير من الناس في مختلف بقاع العالم، وعلى رأسهم دول مثل كوبا ونيكاراغوا في الأميركيتين، ومصر وسوريا في الشرق الأوسط، وكمبوديا وفيتنام في جنوب شرقي آسيا، وأثيوبيا وموزامبيق في أفريقيا. إلا أن روسيا اليوم لم يعد لديها إلا وكلاء وزبائن وتابعون، وبالرغم من أن غالبية الدول، والتي تشمل ديمقراطيات ذات دخل متدن ومتوسط، مثل البرازيل والهند وإندونيسيا والمكسيك، بقيت محايدة وواصلت نشاطاها التجاري مع روسيا، إلا أن بيلاروسيا وأريتيريا وكوريا الشمالية وسوريا كانت الدول الوحيدة التي دافعت عن الغزو الروسي لأوكرانيا أمام الأمم المتحدة (وكان بوسع فنزويلا دعم روسيا لو قامت كاراكاس بدفع ما تأخر عليها للأمم المتحدة، وعندها ستسنى لها فرصة التصويت).

كما أن قيمة بكين كحليف لروسيا باتت محدودة، إذ بالرغم من أن الرئيس الصيني شي جين بينغ أنهى اجتماعاً جمعه ببوتين وجهاً لوجه قبل الحرب بتعهده بصداقة لا حدود لها بين الصين وروسيا، إلا أنه بقي قلقاً على مستقبل الصين ومستقبله أكثر من مستقبل بوتين. وذلك لأن بكين تشاطر موسكو رغبتها بالتصدي لما تعتبره كلتا العاصمتين بمنزلة جهود أميركية وأوروبية لاحتوائهما، إلا أنه من غير المرجح أن يقوم الرئيس الصيني باستنكار سلوك روسيا ما لم تستخدم سلاحاً كيماوياً أو نووياً، ولكن من الواضح بأن ثمة قيود مفروضة على دعم الصين لبوتين.

قد تمثل الصين قوة رجعية مصممة على تقويض الهيمنة الأميركية، إلا أن بكين مهتمة بشكل كبير في الحفاظ على الاستقرار العالمي. كما أن شرعية حكم الرئيس الصيني والحزب الشيوعي الصيني تعتمد على استمرار النمو الاقتصادي، وهذا النمو المستمر يعتمد على علاقات براغماتية نفعية تربط بين بكين وأهم شركائها التجاريين في أوروبا واليابان والولايات المتحدة، ولهذا من غير المرجح أن تجازف الصين بمواجهة عبر انتهاك صريح للعقوبات أو عبر تقديم أي دعم عسكري مباشر لموسكو.

ثمة قيود مشابهة مفروضة على التجارة أيضاً، إذ بالرغم من أن بكين وموسكو شريكتان طبيعيتان بما أن الصين تحتاج إلى النفط والغاز والمعادن من روسيا، وروسيا بحاجة ماسة إلى النقد الصيني، لذا فإن البنية التحتية اللازمة لتحويل الصادرات التي توجه إلى أوروبا نحو الشرق تتطلب وجود استثمارات مالية ضخمة على المدى البعيد. إلا أن النمو الاقتصادي للصين بدأ بالتباطؤ، ولهذا لا بد وأن يغدو استعداد بكين للالتزام بتلك النفقات مشروطاً بانتزاع بنود مواتية للغاية بالنسبة لبكين من قبل موسكو. بالمختصر، يمكن القول إنه بالرغم من الخطاب الذي تبناه الرئيس الصيني والذي يتحدث عن صداقة لا حدود لها بين البلدين، إلا أن صداقة بكين مع روسيا تخضع لحدود واضحة على المستوى السياسي والاقتصادي.

ولكن للأسف هنا تنتهي الأخبار الطيبة بالنسبة لواشنطن وحلفائها، إذ مقارنة بالحرب الباردة التي شهدها العالم في القرن العشرين، تشهد الولايات المتحدة اليوم انقسامات سياسية أكثر كما أنها تحولت إلى عضو غير فاعل ضمن مجموعة السبع. وبالرغم من اتفاق الديمقراطيين والجمهوريين اليوم على أن الشعب الأوكراني يستحق أن يمد بالسلاح، والشعب الروسي يستحق العقوبات، إلا أن كلا الحزبين اتفقا على ضرورة تجنب الولايات المتحدة لأي مواجهة مباشرة مع موسكو، وهذا التوافق السياسي في الداخل لا يمكن أن يستمر طويلاً. إذ مع اقتراب الانتخابات النصفية، لا بد وأن يركز الجمهوريون على أسعار النفط التي ارتفعت بشكل جنوني وعلى التضخم الذي بلغ مستويات قياسية، مع تصوير بايدن على أنه رئيس ضعيف ومضطرب بما أنه "خسر أوكرانيا". وبالمقابل، سيحاول الديمقراطيون أن يربطوا بين الحزب الجمهوري وبين إعجاب الرئيس السابق دونالد ترامب ببوتين مع التشكيك بحلف شمال الأطلسي. وفي الوقت الذي يشهد فيه الأوروبيون عودة التراشق الحزبي المرير في الولايات المتحدة، يصبح من حقهم أن يتساءلوا عن الطريقة التي يمكن من خلالها للانتخابات القادمة أن تغير نهج واشنطن تجاه كل من روسيا وتحالفها العابر للأطلسي، لا سيما إن أصبح ترامب المرشح الرئاسي لعام 2024 عن الحزب الجمهوري.

وثمة خطر آخر يكمن في الخطاب المتشدد الذي تبناه قادة الدول الغربية تجاه التنافس الإيديولوجي بين الدول الديمقراطية والدول الاستبدادية، إذ يرى بايدن مثلاً، ومعه لفيف من رؤساء أوروبا بأنه ينبغي إخراج روسيا من مجموعة العشرين التي تضم قادة أكبر عشرين دولة من حيث الاقتصاد. وبالرغم من التعليقات الساخرة حول تلك المجموعة ووصفها بأنها لا تعدو كونها مجرد فرصة لالتقاط صورة جيوسياسية، إلا أن تلك المجموعة أثبتت قيمتها خلال الأزمة المالية التي عصفت بالعالم في عام 2008، وذلك عندما تحولت إلى فضاء أساسي يجمع بين دول قائمة على أنظمة سياسية مختلفة، وتتبنى قيماً إيديولوجية مختلفة. إذ مع انهيار الأسواق، أدرك قادة مجموعة العشرين بأنه بوسعهم الرد على الكارثة الاقتصادية العالمية في حالة واحدة، وهي عندما تصبح لدول غير ديمقراطية ودول أخرى رأسمالية مثل الصين وروسيا والسعودية مقاعد على الطاولة بجانب الدول الديمقراطية الصناعية المتطورة.

وبالمقابل، لا يرى بايدن حاجة ماسة للتعاون العابر للحدود الإيديولوجية، فقد وضع الرئيس الأميركي الحرب في أوكرانيا ضمن إطار "معركة بين دولة ديمقراطية وأخرى استبدادية"، بدلاً من أن يصور النزاع في أوكرانيا على أنه محاولة منفصلة لشن حرب عدوانية، وهذه النغمة لا يمكن أن تعجب الرئيس الصيني، ولهذا لا بد للصين أن ترفض الجهود الساعية لإخراج روسيا من مجموعة العشرين. ومع اقتراب قمة هذه المجموعة التي ستعقد في تشرين الثاني القادم، ينبغي على بايدن ومن تحالف معه من القادة والرؤساء أن يختاروا بين مشاركة الطاولة مع مستبدين من أمثال بوتين وشي جين بينغ، أو تعطيل مجموعة العشرين في وقت الذي تتعاظم فيه أهمية المخاطر التي تهدد العالم والتي تتطلب اتخاذ إجراء جامع، ومنها التغير المناخي، والجائحة، وانتشار التقنيات التخريبية، ولن نطيل الحديث عن ذلك أكثر. وذلك لأن احتمال حدوث انهيار في التعاون بين الأطراف المتعددة يعتبر الخطر الوحيد الأكبر الذي يهدد النظام العالمي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.

ثمة سبب أخير يؤكد على أن هذه الحرب الباردة الجديدة ستكون أخطر من سابقتها وهو احتمال لجوء روسيا لحرب إلكترونية مدمرة فعلاً، إذ بالرغم من التنافر بين موسكو وواشنطن من حيث مقاييس القوة التقليدية، إلا أن الأسلحة الرقمية الأكثر تطوراً التي تمتلكها روسيا تعتبر عاملاً قوياً لزعزعة الاستقرار مقارنة بالصواريخ النووية التي هددت أمن الولايات المتحدة وأوروبا في ثمانينيات القرن الماضي، وذلك لأن الأسلحة السيبرانية لا يمكنها أن تقتل البشر على الفور، لكن أثرها التدميري أخطر وأكبر، كونها تستطيع أن تلحق أضراراً جسيمة بالنظم المالية، وشبكات الكهرباء وغيرها من البنى التحتية الأساسية. والأهم من ذلك هو أن هنالك احتمالا كبيرا أن تقوم الدول بالاستعانة بالأسلحة الإلكترونية بدلاً من أسلحة الدمار الشامل، نظراً لسهولة جمعها وإخفائها، وصعوبة محاربتها، واستحالة صدها.

ولذلك يجب ألا تطمئن واشنطن لعدم استخدام بوتين لأكثر الأسلحة تدميراً حتى الآن، وذلك لأن الهجمات الإلكترونية الفعالة تحتاج لأشهر بل حتى سنوات من التخطيط، والحرب على أوكرانيا بدأت لتوها. لذا، كما ردت الولايات المتحدة وأوروبا على الغزو عبر معاقبة روسيا اقتصادياً، يمكن لموسكو أن تلجأ للأسلحة الإلكترونية حتى تشل الولايات المتحدة وأوروبا سياسياً، وذلك عبر استهداف الانتخابات المقبلة بعمليات تضليل إعلامي واسعة ومتكررة.

أين السياج الحاجز؟

بما أن الحرب الباردة الجديدة أخذت تسخن، لذا يتعين على القادة أن يفكروا بسياج حاجز، أي باتخاذ إجراءات للسلامة تضمن عدم تصعيد النزاع لدرجة المواجهة المباشرة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي. إذ بعد الاقتراب من الخطر النووي خلال أزمة الصواريخ الكوبية مثلاً، أوجد قادة الولايات المتحدة وأوروبا والاتحاد السوفييتي نظماً تقوم على صمام أمان، عبر تلك الاتفاقيات التي سعت لضبط الأسلحة مثل معاهدة القوات النووية متوسطة المدى، إلى جانب الإجراءات المتخذة لبناء الثقة مثل اتفاقيات السماوات المفتوحة، وذلك لضمان عدم وصول الحروب بالوكالة التي تقوم في مناطق مختلفة من العالم إلى حرب عالمية ثالثة.

ولكن اليوم، ليس ثمة معادل إلكتروني لمعاهدة القوات النووية متوسطة المدى، كما لا يوجد مسار للتفاوض أو لفرضه، ناهيك عن تراجع الثقة بين الرئيس الروسي وحكومات الدول الغربية، ولهذا من الصعب تخيل طريقة لبناء ما يكفي من الثقة بهدف خلق قوانين ومؤسسات جديدة (وكم يا ترى ستستغرق تلك العملية من الوقت). فقد أصبح مجلس الأمن الدولي معطلاً بشكل عصي على أي إصلاح، ومع عدم وجود أي بديل واقعي يلوح في الأفق، أصبح أقصى ما بوسع القادة فعله هو مواصلة التواصل بكل صراحة واحترام حول الفرص المحتملة للحد من التدمير السريع الذين يمكن لأي مواجهة بين روسيا والغرب أن تلحقه بهذا العالم. ولكن لحد الآن، يواجه المجتمع الدولي حرباً ليست بيده أي آلية متفق عليها بوسعه استخدامها للحد من توسع تلك الحرب.

إلا أن القادة الأميركيين والأوروبيين يعتقدون بأن بوسعهم منع هذا النزاع من الخروج عن السيطرة، ولذلك يواصلون فرض عقوبات أقسى وأشد، وإرسال الأسلحة الفتاكة إلى كييف، ومشاركة المعلومات الاستخبارية الآنية مع الجيش الأوكراني، وتشجيع حلف شمال الأطلسي على التوسع بصورة أكبر، والحديث عن مستقبل أوكرانيا الأوروبي. بيد أنهم يتحدثون وكأن رفضهم لإرسال جنود حلف شمال الأطلسي إلى الأراضي الأوكرانية أو فرضهم لمنطقة حظر جوي ضمن أجوائها يمكن أن يحد من خطر انتقام روسيا فعلاً. وذلك لأن بوتين، في الواقع، يعتبر كل تلك الخطوات بمنزلة أعمال حربية. ولكن هنالك فائدة بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها تترتب على تنفيذ تلك السياسات، وذلك لأن روسيا قد لا تمتلك القدرة على الرد بشكل عنيف على كل ذلك، ولكن كلما طال أمد الحرب، صار من الصعب على كل طرف إبعاد القتال عن التصعيد وتجنب تحويله إلى نزاع أوسع.

وحتى لو اقتنع بوتين بإنهاء هذه الحرب عبر الاستيلاء على قطعة صغيرة من الأرض في شرقي أوكرانيا، واعتبار ذلك بمنزلة نصر تاريخي لروسيا، عندها لن تكون هناك عودة للاستقرار النسبي الذي كان قبل 24 شباط الماضي، وذلك لأن الحرب الباردة الجديدة ستكون مفتوحة النهايات، إذ ستبقى روسيا مثقلة بعقوبات الحلفاء إلى أجل غير مسمى، وستضعف علاقاتها التجارية مع أوروبا، وهذا ما سيدفعها لضبط نفسها. ومن المرجح لبوتين بعد خروجه ذليلاً من هذه الحرب أن يختبر قرار حلف شمال الأطلسي، إذ بوسع روسيا مثلاً ضرب الأرتال المحملة بالسلاح التابعة للحلفاء، إلى جانب استهداف مراكز التدريب، ومستودعات التخزين في أوكرانيا، كما يمكنها شن هجمات إلكترونية محدودة على البنية التحتية المدنية في الولايات المتحدة وأوروبا، إلى جانب تصعيد حملات التضليل الإعلامي التي تشنها لتخريب الانتخابات القادمة في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، كما بوسعها قطع إمداداتها من الغاز إلى كثير من الدول الأوروبية، وتقييد صادراتها من السلع المهمة. وفي خضم أزمة اقتصادية تزداد توسعاً، يمكن لقادة حلف شمال الأطلسي أن يتعرضوا لضغوطات هائلة حتى يردوا على تلك الاستفزازات بشكل فعلي، مما يهدد بتصعيد أشد خطورة.

وفي حال خسارة بوتين للدونباس، وإحساسه باستحالة إعلان النصر في روسيا، عندها يصبح خطر التصعيد أشد، إذ قد تفكر موسكو في تلك الحالة باستخدام الأسلحة الكيماوية لقلب الأمور لصالحها أو للهجوم على مقرات حلف شمال الأطلسي في بولندا. كما قد يرد القادة الأميركيون والأوروبيون عبر شن غارات مباشرة على أهداف روسية في أوكرانيا أو عبر فرض منطقة حظر جوي فيها. وهنا قد تزيد واشنطن من عقوباتها المفروضة على موسكو، وبالمقابل قد يتوقف ضخ الغاز مباشرة إلى أوروبا. وهذا ما سيغري كلا الطرفين بشن هجمات إلكترونية تدميرية تستهدف البنى التحتية الحساسة للطرف الآخر. وبالرغم من أن أحداً لا يرجح فكرة الاستعانة بالأسلحة النووية أو نشر قوات حلف شمال الأطلسي، إلا أن أحداً لا يدري إلى أين يمكن أن يقود هذا المنطق الجديد في ظل غياب سياج حاجز.

  المصدر: فورين أفيرز