الغزو الروسي لأوكرانيا.. الأزمة – التحديات والمآلات

2022.03.05 | 05:34 دمشق

69a410c5112b209b23704cddf7c68668_404.jpg
+A
حجم الخط
-A

جذور الأزمة / الثورة البرتقالية

يمكن أن نحدد سنة 2004 كبداية لظهور بوادر أزمة عدم الثقة بين روسيا وأوكرانيا، ففي يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2004 وعلى خلفية ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية، اندلعت في أوكرانيا ثورة شعبية عارمة كان مركزها كييف ومناطق غرب أوكرانيا على خلفية ما تردد عن التزوير والفساد وترهيب الناخبين وسوء الأوضاع الاقتصادية، وبدا هذا الأمر جديدا على الأوكرانيين الموزعين بين الأقاليم الغربية الناقمة على روسيا والمتعجلة للاندماج مع وجهتها الجديدة أوروبا والتي أيدت مرشح الرئاسة التكنوقراط فيكتور يوشينكا صاحب الميول الغربية، مقابل الأقاليم الشرقية الأكثر وفاء لروسيا والتي تشترك وأهلها في اللغة وطريقة التفكير والتي كانت تنظر بعين الشك لهذا الحراك الذي كانت موسكو تتهم الغرب بأنه يقف وراءه.

بات ميدان التحرير في كييف رمزاً للثورة البرتقالية التي أصرت على إعادة فرز الأصوات، وطالبت بوقف التدخل الروسي في شؤون البلد، ومحاربة الفساد المالي والإداري والسياسي، وإنشاء مؤسسات ديمقراطية قادرة على تحقيق آمال الشعب الأوكراني في الكرامة والتنمية. ومع الضغط الشعبي للثوار الأوكران جرى إعادة فرز الأصوات لتحقق الثورة البرتقالية جزءا من مكاسبها، عبر إعلان خسارة فيكتور يانوكوفيتش (المرشح الموالي لروسيا) في جولة الإعادة لصالح الرئيس فيكتور يوشينكو، بما يمكن أن نعتبره أول خسارة روسية في هذه المعركة السياسية أمام أوروبا والغرب على الأرض الأوكرانية في برتقالية 2004.

أطلق على الرئيس يوشينكا لقب "الشهيد الحي" للثورة البرتقالية، وذلك بعد أن كاد أن يقتل عندما دُسَّت له كمية من سم "الديوكسين" أثناء اندلاع الثورة وقبل فرز الأصوات، في حادثة وجهت فيها أصابع الاتهام للمخابرات الروسية المعروفة بولعها باستخدام السم في اغتيالاتها، ورغم نجاته بأعجوبة فقد أصيب بتشوهات جلدية في وجهه بقيت علامة فارقة ودافعاً إصرار أنصاره على إنجاح ثورتهم وتعميق الهوة مع روسيا.

الأزمة الثانية 2013-2014

في انتخابات عام 2010 استطاع فيكتور يانكوفيتش الموالي لروسيا الوصول للسلطة خلفاً لخصمة فيكتور يوشينكو الذي فشل في الوعود التي قدمها للشعب في تأمين الوظائف وخفض الضرائب وتحسين الأوضاع المعيشية ورفع الناتج الزراعي وتقليل الفجوة بين الأثرياء والفقراء عبر محاربة الفاسدين وخاصة أولئك المرتبطين بروسيا.

وقد تجددت مظاهر الاحتجاج ضدّ الرئيس الموالي لروسيا، على خلفية رفضه لتوقيع اتفاقيات شراكة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 مع الاتحاد الأوروبي، وأغلق المحتجون المؤيدون للغرب وسط العاصمة كييف، وقوبلت احتجاجاتهم بالعنف الذي أدى إلى سقوط ضحايا منهم، الأمر الزي زاد في حدة المواجهات، التي انتهت بخلع الرئيس يانوكيفيتش وهروبه باتجاه روسيا، ليتسلم  ألكساندر تورتشينوف الرئاسة بالوكالة لنحو 4 أشهر حتى بدء الانتخابات الرئاسية والتي أوصلت رجل الأعمال الثري  بترو بوريشنكو المعروف بتأييده للغرب للسلطة بعد حصوله على 54% من أصوات الناخبين، شعرت موسكو بأن نفوذها في كييف بات مهدداً، فبدأت بدعم مجموعات تابعة لها في شرق البلاد الأوكرانية، ليتم تشكيل نواة الحركة الانفصالية في إقليم الدونباس، والذي بات يشكل مزيدا من الضغوط على حكومة أوكرانية الجديدة، خاصة بعد زيادة الضغوط عليها مع سوء العلاقات مع موسكو، التي بدأت بالشعور بتقلص نفوذها في كييف، وبدأت بتحريك أجواء النزاعات مع كييف عن طريق دعم الدعوات الانفصالية في شرق البلاد، مستغلة المظاهرات التي بدأها سكان جنوب وشرق أوكرانيا نتيجة استيائهم من السلطة الأوكرانية الجديدة، وشنت روسيا حملة سياسية وعسكرية منسقة ضد أوكرانيا، وقاد مواطنون روس الحركة الانفصالية مدعومين بمتطوعين وعتاد زودتهم بها روسيا، وبدأ صراع مسلح ما بين القوات الانفصالية التابعة لإقليمي دونيتسك ولوهانسك والحكومة الأوكرانية. أعقبت المظاهرات ضم الاتحاد الروسي للقرم.

الأزمة الثالثة 2021-2022

وصل الشاب  فلاديمير زيلينسكي (تولد 1978) إلى السلطة في انتخابات مايو 2019 بعد أن حقق فوزا كاسحا (بنسبة 73,22%) على منافسه الرئيس بوريشنكو، وقد اتخذ الرئيس الجديد عدة خطوات في محاربة وعزل رؤوس الفساد، ربما ليس بالمستوى الذي ظهر فيه في آخر فيلم كوميدي قام بتمثيله، حينما لعب دور "مدرس التاريخ" الذي يترشح للرئاسة، ويفوز بثقة الشعب، ويحارب الفساد في البلاد ويبدأ حملته بإطلاق النار على نواب البرلمان جميعاً بوصفهم فاسدين، وهذا الفيلم ربما كان أحد أسباب الشعبية التي أوصلت زيلينسكي "الممثل الكوميدي" إلى السلطة.

لم يعرف العالم الكثير عن زيلينكسي الذي كان موضع تشكيك واتهام بعدم امتلاكه خبرات سياسية أو عسكرية سابقة، لكن مع بدء الأزمة مجدداً مع روسيا، ظهر زيلينكسي كقائد قريب من قلوب شعبه، ويعرف ماذا يريد بدقة، ويجيد لغة الضغوط على الحلفاء قبل الأعداء، الأمر الذي جعله يكتسب ثقة كبيرة على المستوى المحلي داخل أوكرانيا، وكذلك المستوى الدولي.

خلال أقل من سنتين من تسلمه السلطة استطاع زيلينكسي أن يوظف كل الوسائل الدبلوماسية لممارسة ضغوط على روسيا في مسألة شبه جزيرة القرم، وكذلك الأقاليم الانفصالية، وكان يظهر بين الفينة والأخرى بالزي العسكري على خطوط التماس مع الانفصاليين، ونجح في تدويل قضيته و تقوية علاقته مع الغرب بشكل كبير، واهتم في مسألة زيادة فرص تجارته الدولية، وتسليح الجيش، وعزز علاقته التجارية والعسكرية مع تركيا بتوقيع العديد من الاتفاقيات، كان أبرزها صفقة شراء طائرات بيرقدار المسيرة التي أثبتت كفاءة في معارك ناغورني قاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان، والأكثر من ذلك نجح في إقناع تركيا بفتح مصنع لإنتاج مشترك من نسخ طائرة بيرقدار على الأراضي الأوكرانية، كل تلك التحركات للشاب الذي تم التقليل من قدراته، أغضبت الدب الروسي الذي بدأ يحرك وحداته العسكرية باتجاه الحدود مع إضمار نيته لغزو أوكرانيا.

الغزو الروسي فبراير / شباط 2022

أثارت حشود عسكرية روسية على الحدود الأوكرانية في أبريل /نيسان 2021 مخاوف الغرب، وزادت تلك المخاوف مع ظهور حشود جديدة في أكتوبر / تشرين الأول 2022، أعقبت مناورات عسكرية مع بيلاروسيا، وكانت الولايات المتحدة ودول أوروبا يعربون مراراً عن مخاوفهم من تلك الحشود ويطالبون روسيا بتفسيرات لها، بالمقابل كان الروس يقللون من شأن تلك المخاوف، مبررين بأنّ القانون الدولي يضمن لأي دولة نقل قواتها ضمن حدودها بالطريقة التي تراها مناسبة. لكنهم في نفس الوقت كانوا يشددون على التشكيك بسيادة أوكرانيا عبر ربطها بالتبعية للغرب.

الولايات المتحدة بدأت منذ شهر يناير/ كانون الثاني بالتحذير من غزو عسكري روسي، بل وتحدد ساعة الصفر له مستندة على معلومات استخباراتية، وكررت روسيا نفيها لتلك المزاعم واصفة إياها "بالهلع غير المبرر". كذلك كانت السلطات الأوكرانية تميل للتصريح بعدم وجود مؤشرات للغزو في محاولة لتهدئة هلع السكان المدنيين.

في 21 شباط/فبراير 2022، ظهر بوتين بخطاب طويل يتحدث فيها عن مجريات الأزمة مع أوكرانيا، واختتم الخطاب بالاعتراف بـ «جمهوريتي» دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، أمرَ بوتين بإرسال القوات الروسية إلى دونباس، فيما وصفته روسيا «بمهمّة حفظ السلام».

في 22 شباط/فبراير 2022 صرح كل من الرئيس الأميركي والأمين العام لحلف الناتو ورئيس الوزراء الكندي ووزير الخارجية الأوكرانية كلّ على حدة: أنَّ الغزو الروسي لأوكرانيا قد بدأ، سَمَحَ مجلس الاتحاد الفيدرالي الروسي في نفس اليوم وبالإجماع لبوتين باستخدام القوة العسكرية خارج روسيا. أمر الرئيس زيلينسكي بدورهِ بتعبئة جنود الاحتياط الأوكرانيين، وأعلنت أوكرانيا في 23 شباط/فبراير حالة الطوارئ على مستوى البلاد، باستثناء الأراضي المحتلّة في دونباس، ودخلت الحالة حيّز التنفيذ في منتصف الليل. بدأت روسيا في نفس اليومِ في إخلاء سفارتها في كييف وأنزلت أيضًا العلم الروسي من أعلى المبنى. تعرَّضت مواقع البرلمان والحكومة الأوكرانيين ومواقع البنوك لهجمات سيبرانية، في الساعات الأولى من يوم 24شباط/فبراير، ألقى زيلينسكي خطابًا متلفزًا وُصف بالعاطفي حيثُ خاطب فيه مواطني روسيا باللّغة الروسية وناشدهم لمنع الحرب مع اشتداد المخاوف والترقب، ظهر بوتين في 24 فبراير/ شباط في خطاب طويل استعرض من خلاله جملة اتهامات للسلطات الأوكرانية بوصفها سلطات تمارس النازية ضدّ الروس في أوكرانيا وإقليم الدونباس بشكل خاص، وتحارب الثقافة الروسية وتمنعها في البلاد، وبأنها تابعة للغرب وفاقدة للسيادة، وبأنها تسعى لجعل أراضيها قواعد للناتو، وأنها كذلك تسعى لتطوير أسلحة نووية مستفيدة من تركة وخبرات الاتحاد السوفييتي. ليعلن بوتين في خطابه عن بدء عملية عسكرية بهدف «تجريد أوكرانيا من السلاح وإزالة أثر النازية منها»، وبدأ القصف على مواقع في جميع أرجاء البلاد، بما في ذلك مناطق في العاصمة كييف.

تحديات الأيام الأولى والمقاومة الشعبية

الأيام الأولى للغزو كانت عصيبة بالنسبة للأوكرانيين، لكنها كانت مليئة بالمفاجآت بالنسبة للجيش الروسي أيضاً، فالجيش الروسي الذي توقع إنهاء المعركة سريعاً وإسقاط حكومة كييف، فوجئ بمقاومة عنيفة من قبل الجيش الأوكراني، والمفاجئ أكثر هو المقاومة الشعبية التي بدأها الأوكران ضد الجيش، فلم يرحب أحد من الأوكران لا الذين يتكلمون الروسية ولا أولئك الذين يتكلمون الأوكرانية بالجيش الروسي، بل على العكس تماماً، قاموا بإمطار الآليات الروسية بالمولوتوف، فيما لعبت طائرات بيرقدار دوراً هاماً في توجيه ضربات للأرتال الروسية وإعطاب المئات منها، كما نجحت الدفاعات الأوكرانية على الرغم من تعرض قسم كبير منها للتدمير، في إسقاط طائرات مقاتلة ومروحيات روسية.

أوكرانيا نجحت في أسر مئات الجنود، وناشدت الصليب الأحمر بالتدخل لإجلاء جثث المقاتلين الروس الذين قدرتهم السلطات الأوكرانية بنحو 4500 جندي، وقد جرى تداول عشرات المقاطع يظهر فيها جثث مقاتلين روس والضرر البالغ الذي لحق بآلياتهم، وانقطاع بعض الآليات من الإمدادات بالوقود، ناهيك عن عشرات الأسرى الذين سمح لهم بالتواصل مع ذويهم لطلب المساعدة وإدراجهم في قائمة تبادل الأسرى.

هناك مسألة مهمة كذلك تستحق الوقوف، وهي التناغم الكبير في أوكرانيا بين القيادة السياسية والجيش والشعب، فكميات الدعم والتبرعات التي يقدمها الشعب للجيش كبيرة جداً وتستحق التقدير، والإقبال على التطوع في صفوف اللجان الشعبية وإغلاق الطرق والمساعدة في تجهيز الملاجئ في الأحياء الشعبية تجسد صورة لمقاومة شاملة في أوكرانيا تفسر إلى حد كبير تأخر الحسم لدولة قوية مثل روسيا، والتي اضطرت بعد فشلها في اقتحام عدة مدن في الأيام الماضية مثل خيرسون وخاركوف، إلى استخدام سياسة الأرض المحروقة واستهداف المدن والبلدات بالصواريخ الفراغية وصواريخ غراد وغيرها من أسلحة التدمير.

مآلات الصراع

ما يزال من المبكر التكهن بنتائج هذا الصراع، صحيح أن الإحصائيات والبيانات تشير إلى أن روسيا أقوى ربما بـ 20 ضعفاً من أوكرانيا، لكن الإجراءات التي تم اتخاذها بحق روسيا كانت قاسية وشديدة على الاقتصاد الروسي الذي يمثل نقطة الضعف، كذلك المساحة الشاسعة لأوكرانيا، والمقاومة في كل مكان، والأسلحة الدفاعية التي حصلت عليها أوكرانيا بعد أن أثبتت قيادتها جدارة في إدارة الأيام الأولى من الغزو، تجعل المهمة أصعب وأطول بالنسبة للروس، وتجعل من أوكرانيا ساحة لاستنزاف الروس، وربما مقدمة لاستنزاف الروس مجدداً في مناطق أخرى مثل سوريا.