حرب الممرات مرة أخرى أوروبا في مهب الحروب الكبرى

2024.02.21 | 07:08 دمشق

آخر تحديث: 21.02.2024 | 07:08 دمشق

حرب الممرات مرة أخرى أوروبا في مهب الحروب الكبرى
+A
حجم الخط
-A

معظم -إن لم يكن كل- الصراعات العالمية التي دارت قديما بين الشرق والغرب كانت في جوهرها صراعا حول التجارة ومصادرها وممراتها، ولأن المنطقة العربية من الشرق الأوسط هي العقدة الأهم في طرق وممرات التجارة ولا يمكن تجاوزها، فقد شهدت حروبا كثيرة وتقاتل الآخرون طويلا للاستيلاء عليها أو لضمان تبعيتها.

زاد من أهمية موقع هذه المنطقة للتجارة اكتشاف النفط والثروات الأخرى فيها فأضيف سبب آخر بالغ الأهمية لتصاعد الصراع حولها، واحتلالها من قبل الأقوياء، والأخطر من كل ذلك هو منع نشوء قوة وطنية فيها تستطيع استثمار قوتين فائقتي الأهمية وهما الثروة والموقع، الأمر الذي يمكن أن يهيئ لولادة قوة إقليمية يصعب منافستها وبالتالي يمنع الأطراف الأخرى من نهبها ويرغمها على التعامل معها بندية.

عندما ضعفت الإمبراطورية العثمانية المسيطرة على هذه المنطقة سارعت القوى الاستعمارية الأوروبية للتضييق عليها في عقودها الأخيرة، وعندما اشتعلت الحرب العالمية الأولى جاءت الفرصة المناسبة للإجهاز عليها وتقاسم تركتها، وها نحن اليوم نتاج ذلك التقاسم، وكان من نتائج الحرب الأولى أن بسطت الدول الاستعمارية الغربية سيطرتها على الممرات التجارية الأهم في منطقتنا مضيق هرمز، ومضيق باب المندب، والأهم قناة السويس، لكن الحرب العالمية الثانية التي أنهكت أوروبا ودمرت قسما كبيرا من قدراتها أفقدتها دورها في السيطرة، وجعلت منها تابعا لأميركا التي توّجت متحكما رئيسيا في ممرات التجارة العالمية.

اليوم بدأت أطراف كثيرة حول العالم تبحث عن صيغ جديدة لتقاسم السيطرة، أو لتغيير في قواعدها، وفي هذا البحث عن المعادلات الجديدة يحضر الشرق الأوسط في مقدمة المناطق المتنافس عليها، لكن هناك متغيرات كثيرة وهي بالغة الأهمية فرضتها عوامل كثيرة سواء الحرب الروسية الأوكرانية، أو السياسة الأميركية الحمقاء في تعاملها مع إيران والتي أدت إلى تمكين إيران من أن تكون طرفا رئيسيا في التحكم بمضيق هرمز، وبمضيق باب المندب عبر ذراعها الحوثي، وبالتالي بقناة السويس التي تصبح بلا أهمية بفقدان السيطرة على باب المندب، واليوم أيضا تدخل الصين بقوة، فالصين العملاق الاقتصادي الآسيوي لها مصالح كبرى في مضيق “هرمز”، فهي تعدّ من أكبر مستوردي النفط. و(25%) من النفط الذي يتم تصديره يومياً عبر المضيق يذهب إليها، يضاف إلى كل هذا استسلام أوروبا للسياسة الأميركية وانتباهها المتأخر إلى أنها أصبحت أضعف الأطراف الفاعلة في هذه المنطقة.

بالتأكيد ستدفع أميركا وأوروبا ثمن تمكين إيران من السيطرة على اليمن، وعلى لبنان وسوريا والعراق، وستدفع أيضا ثمن الإضعاف المتعمد لدول المنطقة الأخرى

في المعادلة الجديدة لهذا الصراع تبرز ثلاثة أطراف إقليمية فاعلة هي إسرائيل بصفتها الذراع الأميركية الأوروبية، وتركيا، وإيران، وفي هذه المعادلة وتركيبتها المعقدة تحاول أميركا وأوروبا استعادة نفوذها المهدد، لكن بالتأكيد ستدفع أميركا وأوروبا ثمن تمكين إيران من السيطرة على اليمن، وعلى لبنان وسوريا والعراق، وستدفع أيضا ثمن الإضعاف المتعمد لدول المنطقة الأخرى سواء دول الخليج العربي وفي مقدمتها السعودية ومصر، وثمن التدمير الكبير في كل من العراق وسوريا.

لعل الحرب التي تدق طبولها في منطقة الشرق الأوسط والتي بدأت في غزة ولا تزال مستمرة، لن تكون إلا الفاتحة لسلسلة حروب أخرى إذا ما استعصت السياسة، ولم تتلاق المصالح وهو الأكثر احتمالا.

الوجه الأكثر خطورة في كل هذه الاحتمالات هو أن شعوب هذه المنطقة التي تدفع الثمن باهظا في كل الحروب لا تستفيد مما دفعته، ولا تستطيع الاستثمار في ما تدفعه لتغيير شروط وظروف حياتها نحو وضع جديد يلبي حاجاتها، فلا الشعب الفلسطيني استطاع أن يغير من واقع الاحتلال الإسرائيلي رغم نضاله الطويل وتضحياته العظيمة، ولا الشعب السوري استطاع أن يزيح عصابات الإفساد والنهب من موقع سلطتها على سوريا، وكذلك اليمني والعراقي والليبي و..و..

اليوم تصحو أوروبا على حقيقة انحسار دورها، وعلى حقيقة أنها باتت ضعيفة أمام أخطار تهددها في قلب جغرافيتها، فهل تغير الصحوة الأوروبية من معادلات المرحلة القادمة، خصوصا بعد اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية، واندلاع حرب غزة، وسيطرة إيران على منافذ الممرات البحرية في أهم مناطق خطوط التجارة، بالإضافة إلى أزمة اللاجئين التي أغرقت أوروبا، ومشكلة الطاقة التي تتفاقم بعد مقاطعة روسيا المصدر الأساسي للطاقة الأوروبية، وعجز أميركا عن أن تكون حليفا مأمونا.. فهل يدفع كل هذا أوروبا لاتخاذ سياسة جديدة؟

حتى اليوم تبدو أوروبا عاجزة عن بلورة موقف موحد، واتحادها المتعثر يصطدم كل يوم بتباين مصالح أطرافه وتناقضاتهم حيال مشاكل أساسية، وصعود اليمين المتطرف في معظم دوله، كل هذا يضع وجود الاتحاد واستمراره وصيغته أمام امتحان قاس قد ينتج عنه انفراط عقده، ويمكننا تلمس ارتفاع نسبة هذا الاحتمال من خلال السياسة المختلفة التي ذهبت إليها ألمانيا دينامو الاتحاد الأوروبي حيال الحرب في غزة، وكذلك في ازدياد التفارق بين مواقف دول الاتحاد الأوروبي حول الحرب في أوكرانيا.

أمام التحديات الكبرى التي تواجهها أوروبا، ورغم إحساس الأوربيين بخطأ تسليم الملفات كلها لأميركا وتبعيتهم الكاملة لها عسكريا، لم يعد بإمكانها سوى الذهاب إلى حروب تقودها أميركا، فها هي تنخرط في حرب الممرات، وقبلها انخرطت في دعمها لإسرائيل عشية 7 أكتوبر عندما أرسلت أساطيلها إلى المتوسط، وها هي أيضا تختلف وترتبك أمام استحقاقات كثيرة لم تستعد لها، ولا تزال الأطراف الأخرى الفاعلة أكثر ديناميكية وقدرة على الفعل والمبادرة.

إن البدائل التي ترتسم في أفق شعوبنا هي بدائل بمجملها بالغة السوء، وما ناضلت هذه الشعوب ضده طويلا في مطلع القرن السابق لتحقيق استقلالها قد يصبح اليوم حلما لهذه الشعوب

أوروبا المهددة اليوم بانحسار كبير لنفوذها في الشرق الأوسط، وفي إفريقيا أيضا خصوصا على ضوء ما جرى ويجري في عدة دول إفريقية، واللاهثة وراء تأمين الطاقة تدرك أن القادم عليها سيكون بالغ القسوة، ويهدد إلى حد كبير كل الصيغة الأوروبية الراهنة، ستتورط أكثر فأكثر في الحروب التي اشتعلت.

أما في ما يخص شعوب المنطقة العربية في الشرق الأوسط العاجزة عن امتلاك قرارها بيدها، والتي تنتظر رغما عنها انجلاء معارك الآخرين عليها لكي تعرف في أي فلك تبعية جديدة سوف تدور.

إن البدائل التي ترتسم في أفق شعوبنا هي بدائل بمجملها بالغة السوء، وما ناضلت هذه الشعوب ضده طويلا في مطلع القرن السابق لتحقيق استقلالها قد يصبح اليوم حلما لهذه الشعوب.

إنها النتيجة الحتمية المرّة لقرن من أنظمة حكم فاسدة وتابعة ومستبدة، فهل من مرارة أشد من أن تقف شعوب هذه المنطقة بعد عقود طويلة من الاستقلال لتفاضل بين تبعية وأخرى أو بين احتلال وآخر.