حافظ الأسد تاجَرَ بالسياسة ودمّر الاقتصاد

2021.10.02 | 10:50 دمشق

hafz.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم تكن سوريا بيوم من الأيام بلداً فقيراً بالموارد ولكنها كانت بلداً منهوباً بوساطة حكم استبدادي شمولي، له شكل النظام الرئاسي ولكن بمواصفات تسلطية وراثية، وأصبح الاقتصاد شأناً سياسياً بامتياز وأداة للتغير بيد الحاكمين الجدد منذ أن مهدت الحركات الانقلابية في ستينيات القرن الفائت لاستيلاء حافظ الأسد على الحكم في سوريا، وكان أبرزها انقلاب آذار 1963 الذي جاء بمجموعة من المتصارعين والمتنافسين على السلطة من عسكريين وبعثيين قوميين، ولكنهم متفقين على تصفية النظام الاقتصادي السابق والذي بدأ مجدداً يؤسس لبناء اقتصاد حر ومستقل والاستفادة من موارد البلاد ومجهوداتها في البناء والتنمية، حيث تقدمت سوريا على بلدان منطقة الشرق الأوسط من حيث مستوى المعيشة في تلك الفترة، وازداد الدخل الوطني بمعدل نمو وسطي 4،7٪ ونصيب الفرد من الدخل الوطني بمعدل 4،3٪ وساهم القطاع الزراعي في تكوين هذا الدخل بنسبة اقتربت من 45٪ وجاء بعد ذلك النشاط التجاري والمالي ثم الصناعات التحويلية وبعدها النقل والمواصلات والإنشاءات.

استهدف حافظ الأسد البنية الاجتماعية في المجتمع السوري من خلال قوانين التأميم والإصلاح الزراعي بوصفها أدوات للتغيير

وحين استولى حافظ الأسد على الحكم في انقلاب عام 1970 أعلن الهوية الاشتراكية للاقتصاد السوري عبر خطاباته وقراراته المتصلة بهذا الشأن، وكان في ذلك متاجرة سياسية واصطفاف بالمحور السياسي الشرقي والمتمثل بالدول الاشتراكية وفي مقدمتها الاتحاد السوفييتي السابق، وهذا التوجه يتطلب تدمير القاعدة الاقتصادية السابقة والقضاء على الفرص الواعدة بالتنمية، وهذا ما حصل حيث خسر الاقتصاد الوطني آنذاك كثيرا من أمواله ورجالاته، وعمد نظام الأسد إلى إعادة تكوين وتوزيع الثروة، وبدأ يكرس اشتراكية الدولة كمسار للاقتصاد حيث رفع شعار التعددية الاقتصادية بقيادة القطاع العام، وبدأ يرخي القيود على القطاع الخاص ولكن بحذر وبخطوات مدروسة بحيث لا يسمح له بتشكيل قوة مؤثرة، ولعبت الدولة دوراً تدخلياً في جميع القطاعات الاقتصادية من صناعة وزراعة وخدمات وذلك ليكون لها الدور الأساسي في تكوين القوى الاقتصادية والاجتماعية.

استهدف حافظ الأسد البنية الاجتماعية في المجتمع السوري من خلال قوانين التأميم والإصلاح الزراعي بوصفها أدوات للتغيير، فبرزت ظواهر عديدة مثل الهجرة من الريف إلى المدينة وهجرة المهن والعمالة الماهرة، وكذلك فتح الطريق أمام تشكل رأسمالية الدولة التي نمت في المكاتب الرسمية ومراكز القوى العسكرية والأمنية، حيث مكّن مؤيديه وأركان سلطته،  من امتلاك القرار في التصرف بوسائل الإنتاج دون امتلاكها وبالتالي كرّس برجوازية الدولة التي باتت توجه كل ما له صلة بإدارة اقتصاد البلاد، ابتداءً من تعيينات المسؤولين من وزراء ومديرين عامين وخبراء ومستشارين، فالمعيار الوحيد هو الولاء والاشتراك بالفساد، وانتهاءً بتوزيع حصص الاستثمار والأعمال على الكيانات الوظيفية التي تقع في دوائر السلطة وتخدمها.

واستثمر حافظ الأسد مشاركة سوريا بحرب عام 1973 الخاسرة عسكرياً بالحصول على التعاطف الداخلي والعربي، مما وفر له مصادر دعم مالي كبيرة في تلك المرحلة من التجاذبات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، ولكن للأسف الصلة بين هذا التمويل والتنمية كانت مقطوعة بفعل الفساد والنهب المنظم وتصدير أكذوبة العامل العسكري وميزانية الدفاع التي تستنزف القسم الأعظم من هذه المساعدات، ولا بد أن نشير إلى أن سوريا خسرت فرصة اقتصادية تنموية ذهبية آنذاك، وذلك بسبب المتاجرة السياسية والفساد المقصود لنظام حكم حافظ الأسد، وظل يلعب بهذه الورقة وتلاها موقف دخول الجيش السوري إلى لبنان واستمرار تمويل مواقف الأسد السياسية، والتي يستثمر فيها موارد الدولة البشرية والمادية والاجتماعية ويقبض ثمن ذلك تمويلاً مباشراً لا رقيب عليه ولا حسيب. ومع توطد سلطة نظام حافظ الأسد بدأ يبيع مواقفه السياسية بمهارة ويغامر بموارد ومواقف الدولة، ولا يأبه بمستوى معيشة مواطن أو معدلات نمو أو فرص عمل وأسعار صرف وقوة شرائية، والوصفات الخطابية التبريرية معلبة وجاهزة، بحيث أن سوريا دولة مواجهة ومقاومة وممانعة وهذا يجبّ كل ما سبق.

وبعد أن باع ولاءه لإيران في حربها مع العراق خسر حافظ الأسد دعمه المالي الخليجي واستعاض عنه بمعونات عينية من النفط الإيراني والسلاح الروسي، وتزامن ذلك مع الاحتجاجات الداخلية ومجازر النظام بحق مدينة حماة، وأراد الأسد أن يعاقب السوريين جميعهم، فقد مرت البلاد بأزمة معيشية خانقة، مما اضطره للحديث عن مرحلة انفتاح جديدة ومنح بعض المزايا للاستثمار في بعض القطاعات ولكن بنطاق محسوب ومحدود، وبعد عام 1990 وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي وما تركه من أثر سياسي واقتصادي في العالم وتحديداً في الشرق الأوسط، دخل حافظ الأسد في متاجرة سياسية جديدة من نوع آخر وهي الدخول بمفاوضات سلام مع إسرائيل، وكان هذا النوع من الاستثمار يتطلب شيء من الانفتاح والسماح للقطاع الخاص ورجال الاعمال بالمشاركة الاقتصادية والسياسية، وبالتالي صدر قانون الاستثمار رقم 10 على علاته والذي فتح الباب أمام الاستثمارات لدخول قطاعات كانت حكراً على الدولة، وهنا لابد من الإشارة إلا أن حافظ الأسد خير من يعلم بمتطلبات وموجبات التعامل مع إسرائيل، فلم يعد خافٍ على أحد نوع الصلة والدور الذي يربطه بها.

كان حافظ الأسد تاجراً مخضرماً في السياسة فهو لا يتورع عن بيع أي قيمة أو ذمة أو مورد أو موقف في سبيل الحصول على مكسب سياسي يمكّنه من الاستمرار بالسلطة وتورثيها لأبنائه الموتورين

واستمرت عملية نهب موارد الدولة وإفشال اقتصادها بالمحسوبية والفساد حتى نهاية حكم حافظ الأسد، وكل ما صدر من مراسيم وقرارات لتطوير وتحسين الوضع الاقتصادي لم تكن دوافعه اقتصادية تنموية، بل كانت سياسية تغييرية. كان حافظ الأسد تاجراً مخضرماً في السياسة فهو لا يتورع عن بيع أي قيمة أو ذمة أو مورد أو موقف في سبيل الحصول على مكسب سياسي يمكّنه من الاستمرار بالسلطة وتورثيها لأبنائه الموتورين.