"جينا"كم إسطنبول فلا تخذلونا

2018.10.27 | 23:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كشفت الخارجية الأميركية النقاب عن نتائج جولة مديرة وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه" جينا هاسبل، بالإعلان أن الأخيرة قدمت إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب تقريراً عن قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي الذي قُتل قبل ثلاثة أسابيع في قنصلية بلاده بإسطنبول.

الكثير من المراقبين يرون أن الأتراك وضعوا بين يدي هاسبل تسجيلا صوتيا يوثّق وقائع قتل الصحافي خاشقجي دون تزويدها بنسخة عن الشريط. هناك من يقول أن الاستخبارات اللأميركية تملك أيضا تسجيلات صوتية وهي أرادت مقارنة ما تعرفه بما يملكه الأتراك من تسجيلات صوتية بين القنصلية السعودية والرياض وواشنطن وبذلك تكون الحلقة المفقودة في جريمة خاشقجي قد اكتملت داخل هذا المثلث.

صحيح أن الامتحان الجديد في مسار العلاقات التركية الأميركية الذي تقدم على بقية المسائل هو ارتدادات جريمة قتل الإعلامي السعودي جمال خاشقجي على الحوار الصعب بين البلدين، لكن الصحيح أيضا أن ترامب وفريق عمله قررا عبر إرسال هاسبل إلى تركيا، رمي كرة الثلج المتدحرجة في حضن الكونغرس ليقرر هو ما ينبغي فعله في التعامل مع ملف خاشقجي وبذلك يكون قد تجنب مخاطر التصعيد المباشر مع أنقرة والرياض إذا ما تدهور مسار ملف القضية. 

هاسبل التي توصف بأنها من المجموعة الضيقة التي يثق بها الرئيس الأميركي قد تكون جاءت إلى تركيا لـ نقل رسائل ترامب حول ضرورة قطع الطريق على التصعيد التركي السعودي في القضية، لكنها جاءت حتما لجس نبض الأتراك ومعرفة سقف المطالب والحد الأدنى الذي قد يرضيهم في الموقف السعودي وهو غير مطمئن طالما أن الرئيس أردوغان لا يتوقف عن تكرار المطالبة بتسليم السعودية للمجموعة المتهمة "إذا كنتم تريدون إزالة الغموض، فالموقوفون الـ18 هم النقطة المحورية في التعاون بيننا. وإذا كنتم لا تستطيعون إجبارهم على الاعتراف بكل ما جرى، فسلّموهم إلينا لمحاكمتهم، كون الحادثة وقعت في قنصلية السعودية في إسطنبول".

الخارجية الأميركية بدأت بإجراء تحقيقات لـ محاكمة المسؤولين أو معاقبتهم عن انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في حادثة خاشقجي

الملفت هنا أيضا والذي لا يوحي بأن واشنطن نجحت في مساعي تبريد التوتر على خط أنقرة الرياض كانت المواقف التي أعلنها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بعد ساعات فقط على عودة هاسبل والتي تتناقض تماما مع سيناريو التهدئة الأميركية في ملف خاشقجي. فبومبيو يقول إنّ الخارجية الأميركية بدأت بإجراء تحقيقات لـ محاكمة المسؤولين أو معاقبتهم عن انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في حادثة خاشقجي وإن واشنطن ورغم علاقاتها الاستراتيجية مع السعودية فهي ستحاسب جميع المسؤولين عن مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي.

احتمال آخر أن تكون واشنطن وفي أعقاب المعلومات التي حملتها هاسبل هي التي شجعت الرياض على إرسال المدعي العام السعودي سريعاً إلى تركيا لـ تجنب احتمال نشرها للمعلومات التي تملكها حول القضية ولم تشأ تعميمها بانتظار انجلاء التحرك السعودي، فتبين أن الأتراك لم يعد لديهم الرغبة بالانتظار أكثر من ذلك للوصول إلى ما يريدونه وفي مقدمة كل شيء الاطلاع على شهادات الموقوفين السعوديين ومعرفة مكان جثة الخاشقجي والكشف عن هوية المتعاون المحلي مع القنصلية في إخراج الجثة وإخفائها.

صحيح أن رئيسة جهاز الاستخبارات الأميركية جينا هاسبل جاءت إلى تركيا بعد تراجع التوتر في موضوع القس اندرو برانسون الذي أفرجت أنقرة عنه وعاد إلى بلاده سالما وهي قد تشكر أنقرة على هذه البادرة رغم أن أحدا لا يعرف بعد كيف سترد الإدارة الأميركية التحية. لكن هناك أمور كثيرة أخرى تتحكم بقدر هذه العلاقات وهي جاءت لبحثها مع المسؤولين الأتراك وفي مقدمتها ضرورة حصول واشنطن على ما تريده من تركيا في موضوع العقوبات على إيران وعدم عرقلة خطتها في شمال شرق سوريا وتخفيف حجم الاندفاع التركي نحو موسكو.

هاسبيل في إسطنبول أيضا لمعرفة ما الذي تعد له تركيا في القمة الرباعية التي لم تدع إليها واشنطن لكنها تريد أن تعلم الجميع أنها ستكون حاضرة بروحها ونفوذها وثقلها الاستراتيجي. وهي بذلك أرادت إبلاغ الحضور عبر تركيا أن محاولة صناعة تحالفات جديدة في التعامل مع ملفات إقليمية على حساب مصالحها ونفوذها خطوة لن تقبل بها مهما كانت قيمة الاجتماع شكلية أو رمزية.

هاسبيل تريد إعلام الأتراك أيضا أن محاولة الاقتراب أكثر فأكثر من روسيا ستكون ارتداداتها مكلفة وأن أنقرة ستواجه أكثر من مشكلة إذا ما حاولت التلاعب بالتوازنات والاصطفافات حتى في التعامل مع الملف السوري دون أن تكون هي أمام الطاولة. وهي أيضا أرادت استغلال فرصة تواجدها في إسطنبول للتذكير أن روسيا لا يمكن أن تكون الخيار البديل لأن الإجابة على سؤال من هذا النوع جاءت على لسان السفير الأميركي في تل أبيب عفوا السفير الروسي في إسرائيل الذي قال قبل أيام إن أمن إسرائيل هو بين أولوياتنا.

مديرة جهاز الاستخبارات الأميركية في إسطنبول لأكثر من سبب مثل لفت انتباه أنقرة إلى أن محاولة الانفتاح على العواصم الأوروبية مثل برلين وباريس رغما عنها بهدف إعادة بناء الاقتصاد التركي الذي تلقى ضربة قوية في الأشهر الأخيرة، سيكون صعبا فواشنطن لن تنتظر دون حراك سياسي أمني إذا لم يؤخذ ما تقوله بعين الاعتبار.

"الشراكة النموذجية" التي تروج لها واشنطن في علاقاتها مع أنقرة اصطدمت بسياسة "الرد الاستباقي" التركي في سوريا

"الشراكة النموذجية" التي تروج لها واشنطن في علاقاتها مع أنقرة اصطدمت بسياسة "الرد الاستباقي" التركي في سوريا وهذا ما جاءت هاسبل لمعالجته بين البلدين خصوصا في أزمة شمال شرق سوريا حيث تتواصل عملية حفر الخنادق والأنفاق التي يقول الرئيس أردوغان إنها ستتحول إلى قبور وتوفر على الأتراك الجهد والوقت.

بين أهداف واشنطن السورية دعم مجموعات "قسد" الكردية وتحويلها إلى قوتها الضاربة ورأس حربتها في البنية السياسية والعسكرية الجديدة لـ سوريا. أنقرة تصر على اعتبار أن هذا المشروع هو بين خطوطها الحمراء وربما هذا ما حمل هاسبل إلى تركيا قبل وقوع الانفجار. 

البيت الأبيض ردد دائما أن الملفين الإسرائيلي والإيراني هما بين أولوياته الإقليمية وهو يقول أيضا أن تركيا تتحرك إقليميا بما يتعارض مع حسابات واشنطن ومصالحها الإقليمية . هاسبل قد تكون حملت بعض الاقتراحات والعروض الجديدة لأنقرة بعد إطلاق سراح القس وتفاعل صدى جريمة خاشقجي لكن لا أحد يعرف بعد بأي اتجاه ستتقدم الأمور بعد.