icon
التغطية الحية

ثمن السخرية المكلف.. كما لو أننا نضحك بالفعل!

2022.07.15 | 15:43 دمشق

سخرية
+A
حجم الخط
-A

كثيراً ما يكون النقاش في القضايا الكبرى مملاً، خصوصاً حين تُعدم القدرة على التأثير فيهاً، إذ يصبح ممجوجاً يُجهد العقل ويُكدّر النفس دون أدني جدوى ترتجى؛ يميل الناس عادة إلى التخفّف من وطئه فيلجؤون إلى السخرية هاربين من همومهم وأحزانهم وكبتهم لأنهم ببساطة يرفضون الاعتراف بواقعهم غير المُرضي وبعجزهم وكذلك يرفضون الاستسلام لليأس.

السخرية بحر واسع من شاطئ الطرفة إلى موج التهكم وزبد الاستهزاء إلى عمق النقد؛ إنها أسلوب شيق عند من يجيدون صنعته، ومسفّ سخيف عند المتطفلين عليه، وهي فن قديم ظهر مثلاً (في بردية مصرية قديمة لرسام ساخر مجهول عن طائر يصعد الشجرة ليس بواسطة جناحيه ولكن بواسطة سلم خشبي)، وتُقتفى بوادره في بواكير الشعر العربي لكنه، أي الشعر العربي، يجنح لأغراضه الأولى في الذم والهجاء والمديح فتغلب على السخرية، حتى ظهر أدب السخرية جلياً في العصر العباسي، فنجد كليلة ودمنة لابن المقفع والبخلاء للجاحظ الذي يقول: "وللضحك موضع، وله مقدار، فالناس لم يعيبوا الضحك إلا بقدر ولم يعيبوا المزح إلا بقدر"، وغيرها الكثير...

السخرية كشكل من أشكال التضامن الاجتماعي

يندر أن يخلو مجلس عزاء من روّاد مختصين بفتح السير المسلّية وتحويل الأحداث اليومية بأسلوب شيّق إلى طُرَف، حتى إنهم يلقون أحيانا بعض النكات عن الموت والموتى، فيحملون الناس، بمن فيهم أهل المتوفى، على الضحك حملاً. قد يظهرون للبعض متجاوزين للآداب لكنه في الحقيقة أسلوبهم في مواجهة المصائب؛ إنهم يهزؤون حتى من أنفسهم إذا اقتضى الأمر معلنين السخرية أسلوباً للتضامن الاجتماعي وسلاحاً مجرباً في وجه صروف الدهر. كثيراً ما نجد هذه الحالة في الأفلام المصرية كشهيرة فيلم "الكيف" على لسان يحيى الفخراني (باللهجة المصرية):

"- إنت جاي تعزي وللا جاي تهرّج؟

- أنا جاي أهرّج".

كذلك يصح هذا على مقولة الطفل العراقي العفوية لقناة تلفزيونية أثناء خروجه من مناطق سيطرة (داعش) "... من عبرت ارتاحيت" فأصبحت مثالاً لما عانته شعوبنا وبلادنا من داعش. هذه الكلمات المجردة والصادقة أثارت الضحك أكثر مما أثارت الحزن لأنها عبّرت عن المعاناة بما أحدثته من أثر انتهاكيّ مدمر لا نريد الاستسلام على الرغم منه؛ نعم لقد استباحونا إلى آخر حد، لكننا استطعنا العبور! كأن القدرة على البكاء والقدرة على الضحك بذرتان في قشرة واحدة، تولدان معاً، ولذلك كانت (المضحك المبكي) علامة للأكثر قسوة.

أثناء حصار جنوبي دمشق كُنّي طبيب الجراحة العظمية باسم عشيرته (أبو عساف)، وبعد عدد من عمليات البتر التي تكثر في الحروب أصبح يناديه البعض أبو سيّاف؛ قياس إيقاعي عفوي حوّل المصيبة إلى نكتة لطالما أثارت قهقهة الدكتور عمار عيسى نفسه! إنها عصاة سحرية قلبت عبوسنا ضحكاً ودموعناً لمعاناً في العيون. كتب عمار ذات مرة: "حتى السخرية لها منهجها في أن تكون شكلاً تضامنياً... قد يكون ضحكنا لحظة الجنون الخارجة عن السياق، محاولة هروب من العقل في أرذل لحظاته المدانة والواقعية إلى تلك المساحة من العقل العفوي التخييلي الفرح".

السخرية والسياسة

صار من نافل القول الحديث عن النكتة السياسية كتنفيس عن الحالة القمعية وكمعاوضة عن الـ(لا) المُحرَّمة في الشارع ومكان العمل وفي صندوق الاقتراع... فصاغها عامة الناس في مجالسهم الخاصة وبأصواتهم الخفيضة وانتشرت أكثر من أي خطاب جماهيري لديكتاتور عربي، نوّاسة بين الفكاهة و(فش الخلق) حتى طالت كل ذوي الطول.

كلفت سخرية شاعر دمشق نزار قباني من المسؤولين الحاضرين أمسيته الشعرية في (مكتبة الأسد) ومنهم باسل الأسد، الخروج من دمشق وعدم العودة إليها إلا مسجّى في كفنه

لكننا سنذهب إلى السخرية من حيث غايتها الناقدة أو المستهزئة في عدة أمثلة نبدأها من أحمد مطر في قطعة ينتقد فيها الحكام العرب وسياساتهم القامعة للحريات والهادمة للثقافة موظِّفاً رمزاً دينياً معروفاً ما أعطى سخريته سهولة اللغة وعمق المعنى، منتقداً كذلك الفهم السلبي للقول المأثور (إن السكوت من ذهب) وكأنه تحريض على الرفض وعدم الركون لسلطة تقلب الحقائق وتغيّر المفاهيم وتنهب الموارد وتهمل مصالح الشعوب:

قرأت في القرآن

"تبت يدا أبي لهب"

فأعلنت وسائل الإذعان

أن السكوت من ذهب

أحببت فقري.. لم أزل أتلو:

"وتب

ما أغنى عنه ماله وما كسب"

فصودرت حنجرتي

بجرم قلة الأدب

وصودر القرآن

لأنه حرضني على الشغب

والسخرية في الأدب كثيراً ما تكون مكلفة لصاحبها، ليس على غرار مسرحية ضيعة تشرين التي تنتهي، وربما لتدخّل رقابي، بتنظيف مباشر لكل ما يفهم من تلميحاتها وتصريحاتها بالإشارة للمختار الجديد بطل حرب تشرين، بل كما كلفت شاعر دمشق نزار قباني سخريته من المسؤولين الحاضرين أمسيته الشعرية في (مكتبة الأسد)، ومنهم باسل الأسد. تحدث عن الأمسية الدكتور رياض نعسان آغا في مقال مطول، حيث افتتح الشاعر أمسيته بقصيدة (السيرة الذاتية لسياف عربي):

أيها الناس

لقد أصبحت سلطاناً عليكم

فاكسروا أصنامكم بعد ضلال، واعبدوني

إنني لا أتجلى دائماً..

فاجلسوا فوق رصيف الصبر، حتى تبصروني

اتركوا أطفالكم من غير خبز

واتركوا نسوانكم من غير بعل.. واتبعوني

احمدوا الله على نعمته

فلقد أرسلني كي أكتب التاريخ،

والتاريخ لا يكتب دوني

أيها الناس:

أنا مجنون ليلى

فابعثوا زوجاتكم يحملن مني

وابعثوا أزواجكم كي يشكروني

 ما أدى لخروج باسل الأسد مباشرة من القاعة وامتعاض كبار المسؤولين، وكلف الشاعر الإهمال التالي للأمسية وإلغاء كل الدعوات الرسمية التي كانت مجدولة احتفاء بقدومه، وكذلك كلفه الخروج من دمشق وعدم العودة إليها إلا مسجّى في كفنه.

أوسكار وايلد الساخر

ولد أوسكار وايلد في بريطانيا ومات خلال مرحلة العصر الفيكتوري، أي في أوج فرض الاحتشام واللياقة والتأنق والقوانين العامة التي فرضتها الملكة فكتوريا وحورب كل من يخرج عنها. أما هو المنتسب لجماعة الفن من أجل الفن والمتتلمذ على أيدي أهم الأدباء والفنانين فقد وجد ضالته وأسلوبه في انتقاد طبيعة الحياة الدينية والاجتماعية المُعتنَقة بتزمت، ومن هنا بدأت مسرحياته (ملهاته) ليُمنع عرض بعضها في بريطانيا إلى فترة متأخرة حيث عرضت مسرحية "سالومي" في فرنسا وألمانيا ولاقت إقبالاً مبهراً ولم تُعرض في بريطانيا إلا بعد أربعين عاماً. واتساقاً مع موضوعنا نتخذ من مسرحيته ذات العنوان المخاتل (أهمية أن يكون الإنسان جاداً) مثالاً. إنه يطرح الجدية من حيث يراها المجتمع الفيكتوري بأسلوب هازئ يتعرض فيه للقيم والمفاهيم التافهة التي صارت قوانين الإنسان النبيل. أخذ فيلم (فتى أحلامي) لعبد الحليم حافظ حكاية المسرحية لكنه مع الأسف أسقط حدتها النقدية بعباراتها اللاذعة من مثل:

  • "تقوم الثقافة العصرية، في الغالب، على ما لا ينبغي للمرء ألا يقرأه"
  • "الدكتور تشوزبيل رجل من أوسع الناس علماً، وأشدهم تبحراً في المعرفة، إنه لم يؤلف في حياته كتاباً واحداً، ومن ثم تستطيع أن تتخيل عظم ما بلغ من العلم"
  • "أخذت معي دفتر يومياتي؛ لا بد من شيء مهم يقرأه الإنسان في القطار"
  • "إن من السوقية أن يتكلم الإنسان فيما يعنيه"

من الواضح أنه يقصد النقد الاجتماعي بشكل هازئ وتحقيري في بعض الأحيان، رامياً فئة النبلاء بتهكم واضح، وهو الفقير أصلاً حتى درّت عليه مسرحياته المال فغالى بارتداء الغريب وباهض الثمن من الثياب. إلا أن نقده لم ينحصر على النقد الاجتماعي بل تعداه، في مسرحيات اخرى، لكشف نوازع النفس الإنسانية ورغباتها الغريبة أو المرفوضة في المجتمع اللندني آنذاك.

في عالمنا العربي وبعد مئة عام من موت أوسكار وايلد تقريباً ولد ألبير قصيري في مصر لعائلة سورية الأصل (من القصير)، وشكل لاحقاً مع زملائه مجموعة (فن وحرية) التي تعتمد فكرة الكسل والتسلية أسلوباً للحياة، ومن ثم سافر إلى فرنسا ليكتب بالفرنسية مجموعة روايات حائزاً لقب (أوسكار وايلد الفرنسي). اختصت رواياته بالواقع المصري وتُرجم عدد منها للعربية، وتحول بعضها لأفلام سينمائية مثل (شحاتون ومتغطرسون). عند قصيري نجد حساً أقل فكاهة ولكنه أكثر مباشرة في النقد، فيُلبِس أبطاله السخرية كطريقة للعيش والتعامل مع الواقع الفاسد الذي لا يمكن تغييره، ويشخص الفساد في التاجر وأخي الوزير في رواية (ألوان العار)، أما في رواية (العنف والسخرية) فيفارق ما بين المحافظ الفاسد الصارم في تنظيف المدينة من الشحاتين والفقراء وبين معارضين اتخذوا السخرية طريقاً للتغيير بدلاً من العنف الثوري، فيمتدحون المحافظ كأنه الإسكندر الكبير ويقدمون مقترحات لبناء تمثال له مما يثير قلق المسؤولين الأكبر فيقيلونه، إلا أن الثوريين يفجرون سيارته قبل أن يُعمم قرار الإقالة. عاش قصيري في فرنسا في غرفة فندقية تحمل الرقم 58 ولم يغيرها حتى وفاته حيث كان يرفض التملك: "الملكية هي التي تجعل منك عبداً". في النهاية نستطيع القول إن أسلوب قصيري كان أكثر مباشرة وتدخل السخرية العقلية فيه محل السخرية الفكاهية والتهكمية عند أوسكار وايلد.

خلاصة

إنها دعوة للسخرية التي تناضل للتغيير دون أن تحط من جوهر القضايا وقيمتها، إذن لنرتدي القناع ذا الابتسامة العريضة الجامدة كما فعل بطل فيلم (V for vendetta) عندما خذله وجهه الذي شوّهه نظام الحكم الديكتاتوري!