تونس و"فشل" الربيع العربي

2022.01.28 | 05:39 دمشق

thumbs_b_c_c33c3e1b9de0676481961803bb6a0eea.jpg
+A
حجم الخط
-A

أشعلت المظاهرات في قلب تونس العاصمة بمناسبة مرور اثني عشر عاماً على الثورة التونسية، أشعلت الأمل بأن تستطيع القوى والأحزاب السياسية الديمقراطية التونسية إجبار الرئيس قيس سعيد على التراجع عن قراراته الفردية في تجميد عمل البرلمان وتجاهل نتائج الانتخابات والحكم بطريقة فردية مستبدة.

أعتقد سعيد عبر شعبويته أنه يستطيع تحويل النقمة السياسية على البرلمان والأحزاب السياسية إلى تأييد لشخصيته وقراراته المثيرة للجدل، لكن بعد أقل من عام بدا أنَّ ذلك أصبح سراباً وأن معظم التونسيين اليوم ينظرون إلى سعيد بوصفه خليفة بن علي في طريقة الحكم والسيطرة، وأنه يوما بعد يتكشف الوجه الحقيقي عبر ممارسات الأجهزة الأمنية ووزارة الداخلية من خلال الاعتقال السياسي ورفض عمل المؤسسات وعلى رأسها البرلمان الذي يجب عليه إعطاء الشرعية للحكومة.

كنت من المتنبئين بفشل انقلاب سعيد لسبب بسيط هو قوة الطبقة الوسطى التونسية التي أخرجت الثورة التونسية عام 2010 للعلن معلنة بدء ثورات الربيع العربي، وهي اليوم تقف بقوة ضد استبداد سعيد وانحرافه عن المسار الديمقراطي الذي دفع ثمنه غاليا من دماء التونسيين وعرقهم، لكن ما تذكرنا التجربة التونسية به مع مثيلاتها من ثورات الربيع العربي، هو مدى صعوبة التحول الديمقراطي في منطقتنا العربية، حتى التجربة التونسية التي تخطت العتبة في التحول الديمقراطي وحققت أربع انتخابات برلمانية متتالية كافية لثبات تجربة التحول الديمقراطي فشلت في ضمان هذا الثبات، فماذا يمكننا الحديث عن التجربة المصرية التي انتهت إلى حكم عسكري ارتكب أشدَّ المجازر فظاعة في التاريخ المصري المعاصر، أو تجربة سوريا وليبيا واليمن التي انتهت إلى حرب أهلية فتحت الباب لتدخل قوى أجنبية وميليشيات خارجة عن سلطة الدولة تقوم بقتل وتهجير الآلاف من المواطنين.

 فشلت معظم دول الربيع كمصر وسوريا وليبيا واليمن في إنجاز عملية التحول السياسي باتجاه بناء نظام ديمقراطي وليبرالي يحقق طلعات الشباب الذي كان في طليعة المظاهرات المليونية الحاشدة التي ملأت شوارع العواصم العربية، لماذا فشل التحول الديمقراطي في هذه الدول رغم نجاح عملية التحول في مناطق أخرى من العالم كدول أوروبا الشرقية في التسعينيات من القرن الماضي، وأميركا اللاتينية في الثمانينيات من القرن الماضي.

ما نستطيع قوله اليوم بعد أكثر من عشر سنوات على الربيع العربي وفشل عملية التحول الديمقراطي في ست من دول الربيع العربي إن هناك فشلاً ذريعاً في النخب والمؤسسات العربية

ما نستطيع قوله اليوم بعد أكثر من عشر سنوات على الربيع العربي وفشل عملية التحول الديمقراطي في ستٍ من دول الربيع العربي أن هناك فشلاً ذريعاً في النخب والمؤسسات العربية وفي قدرتها على إدارة عملية التحول الديمقراطي كما جرى في مناطق أخرى من العالم، أنا لا أقول إن الديمقراطية كنظام سياسي سهل التطبيق بل ربما يكون أكثرها صعوبة لأنه يحتاج إلى مجموعة من الشروط الضرورية التي لابد من توفرها في مجتمع من المجتمعات كي ينجز عملية التحول بأقل تكاليف ممكنة، أعتقد أن المجتمعات العربية دفعت وما زالت تدفع أثمانا غالية لعدم قدرة نخبها السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية على التوافق على مسار التحول بما يضمن بناء المؤسسات وثباتها واستقرارها.

وجدنا كيف أن الديمقراطية حتى في الولايات المتحدة كانت تحت التهديد في سنوات ترامب، وحاول مراراً وتكراراً تجاوزها أو العبث بها، لكن المؤسسات وقوة النخب المخلصة لفكرة الديمقراطية منعته ووقفت ضده حتى أخرجته من البيت الأبيض.

وهو ما قاله زعيم الأغلبية الجمهورية إن النظام كنظام حكم ذاتي يحتاج إلى الكثير من الشروط الواجب توفرها لنجاح التجربة الديمقراطية، فإذا كان هذا الحال في الولايات المتحدة التي هي أقدم ديمقراطية مستمرة في التاريخ الحديث منذ 250 عاما ويزيد فما يكون الحال في دول حديثة لا يتجاوز عمرها الستين عاماً ولم تقم بها تجارب ديمقراطية تمكنها من البناء عليها، فسيكون من السهل جدا أن لا تصمد هذه البراعم في ظل موجة عاتية من ضعف المؤسسات وفقدان القيم الديمقراطية داخل النخب السياسية فكل ما يهمها هو الربح الآني أو السريع، ولذلك لن يكون مستغرباً بعد عشر سنوات من الثورات جرَّت حكومات عسكرية وحروباً أهلية هنا وهناك.

لقد اصطدمت الثورات العربية بشكل قوي بهياكل مستبدة تعود إلى الأنظمة السابقة مع عدم رغبتها في التحول نحو دمقرطة المؤسسات وإدارة عملية التحول بذاتها كما جرى في مناطق أخرى من العالم كأوروبا الشرقية، بالعكس لعبت هذه الهياكل دورا تدميريا ليس في عرقلة عملية التحول فحسب وإنما في تدميرها عبر المساعدة في خلق منظمات عسكرية غير حكومية كما حدث مع داعش في سورية والعراق، وحزب الله في سوريا ولبنان والعراق، والحوثيون في اليمن، كل هذه الهياكل العسكرية تم تشكيلها بشكل مباشر أو غير مباشر على يد هياكل الأنظمة السياسية السابقة بهدف عرقلة عملية التحول والانتقال، ولذلك انتقلت كل هذه البلدان إلى مرحلة من الفوضى العسكرية وليس السياسية فحسب وهذا ما يفتح الباب واسعاً لدخول هذه البلدان إلى الحرب الأهلية لتفتيت بناها الاجتماعية الضعيفة أصلا والمكونة من انتماءات قبلية وطائفية ما قبل دولتية.

وهو ما يعيدنا إلى السؤال الذي طرحه عزمي بشارة في كتابه عن إشكاليات الانتقال الديمقراطي هل نقوم ببناء الدولة أو نقوم بتأسيس الديمقراطية، إذا لم يكن هناك مؤسسات كي تترسخ الديمقراطية عليها فإنها ستتحول إلى مؤسسات وأجهزة قمعية بدل أن تكون هياكل لدعم العملية الديمقراطية.

سؤال يطرح اليوم وسيبقى معنا في هذه التجارب حتى نستطيع تثبيت التحول الديمقراطي وبناء المؤسسات التي تحميه.