تساؤلات حول الهويّة – المكوّنات – الأفراد

2024.01.26 | 07:20 دمشق

آخر تحديث: 26.01.2024 | 07:20 دمشق

تساؤلات حول الهويّة – المكوّنات– الأفراد
+A
حجم الخط
-A

يرى مفكرون أنّ السؤال عن "الهويّة" مرتبط بانهيار النموذج الشيوعي، ويعتقد آخرون ومنهم عبد الله الغذامي أن السؤال عن الهويّات الفرعية مخترع ثقافي، نشأت الحاجة إليه في زمن "ناسخ للحداثة" كردّة فعل على الخيبة من الحداثة التي لم تنجز وعودها بإيقاف الحروب والمرض والفقر، حيث يجري تفكيك كل مؤسسات الحداثة كالدولة الوطنية والمنظمات والأحزاب والنقابات لتكون "الجماعة" بديلا عن المجتمع.

ويستدل الغذامي أن "الحلم الأميركي" لم يتمكن من صهر كل تكويناته في المجتمع الحداثي العقلاني، وليصف المجتمع الأميركي يستعير الغذامي مقولة "صحن السلطة" كبديل يعلن فشل مقولة "البوتقة الصاهرة" ويعترف بواقعيّة الحالة البشريّة وتكوينها حيث تعود إلى التنويعات الأصليّة التي لا تنمحي وتظل تحمل سمات وصفات مهيّأة للصراع مثلما هي قابلة للتعايش.. بحسب الغذامي.

إذن فالغذامي يعتقد أن تلك التكوينات "القبليّة" أصيلة ومن ثمّ فإنّ إمكانية ظهورها في مجتمع أميركي لا شك بحداثته وارد، وإمكانية ظهورها في مجتمع ما قبل الحداثة وارد أيضا!

سوريّا -وقبل كل شيء- لنتفق بداية أنّنا بعد سنوات الدم التي خضناها نشعر بالألم؛ ثم فلنحاول معرفة سبب الألم: أهو ناتج عن كوننا كنّا نعيش نموذج حداثة وطنية في نموذج القوميّة العربيّة -التي لم تحقق وعودها بإنهاء الفقر والحروب كما رأى الغذامي عن الحداثة- أم أنّ ذلك النهج القومي ذاتها يشاركنا خطاب الشعور بالخيبة من "ليبرالية غربيّة" أظهرت تناقضاً بين مبادئ حقوق الإنسان وبين اعتبارنا ننتمي إلى فئة "إنسان"؛ وليس نموذج غزّة اليوم ببعيد!

هل نعاني الألم لأنّا مجتمع صهره النموذج الحداثي وأوغل المتآمرون في تفتيته وجعله "صحن سلطة" بمكوّنات متمايزة قادرة على الانفصال كما هي قادرة على التعايش كما وصف الغذامي ذاته المجتمع الأميركي!

فيما يُشبه "الموضة" باتت إمكانيّة تقييم المرء باعتباره "ديمقراطيّاً" مرهونة باستخدامه لغة "المكوّنات"

السؤال عن المرحلة التاريخيّة يظل مهمّاً لمعرفة التوجّه على أقل تقدير؛ هل نحن متجهون إلى ما بعد الحداثة؛ في تفكيك مجتمعنا المدني ودولتنا ومؤسساتنا واستبدال كل ذلك بـ "الجماعة - القبيلة - المكوّن"؛ أم نحن في مرحلة ما قبل الحداثة، وأصبحنا "مكوّنات سلطة" ولم يعد أمامنا إلّا أن نصبح "صحن سلطة"؛ أم نحن في مرحلة هجينة أنجز خلالها المجتمع السوري -بعيداً عن نخبه- صورة ما من العيش المشترك يمكنها بذاتها تجريم الطائفيّة والعنصريّة؟!

فيما يُشبه "الموضة" باتت إمكانيّة تقييم المرء باعتباره "ديمقراطيّاً" مرهونة باستخدامه لغة "المكوّنات"؛ وبالمقابل فالخارج على هكذا خطاب سيبدو مناقضاً ليس مع تصورات هنتجتون وبرنارد لويس عن كوننا كذلك ولم نعرف الحداثة فحسب؛ بل مع تيّار واسع من "موظّفي" العمل السّياسي والمدني، الذين ينحدر كثير منهم أيضاً من ثقافات ماركسيّة أو دينيّة بدؤوا لتوّهم في تقدير قيم "الحريّة والمساواة" بين الأفراد!

لكن بالمقابل: إذا كانت النخب السّياسيّة والثّقافيّة السّوريّة لم تمارس المدنيّة العقلانية الليبراليّة إلّا خلال فترة وجيزة قبل الاستعمار الفرنسي لسوريا، ثم في فترة ما بين الاستقلال عام 1946 حتّى عام 1963 يوم أعلنت السلطة البعثيّة حالة الطّوارئ ورفعت الحقوق المدنيّة، ومثقّفونا وسياسيّونا من خلفيّات ماركسيّة شيوعيّة أو دينيّة غير مقدّرة للقيم المدنيّة فمن أين لنا الزعم بأنّا مارسنا الحداثة العقلانيّة وحقوق الأفراد!

على أيّة حال -وسواء أكنّا عشنا نموذج الحداثة أم لا- فالسؤال عن "الهويّة" ظاهرة عالميّة يمكن أن تنفجر في فرنسا بين الفرنسيين من أصل جزائري وبين الفرنسيين من أصل فرنسي، وفي أميركا بين أميركيين سود وبيض، بالطريقة ذاتها التي انفجرت بها في لبنان والعراق وسوريا؛ أمّا دواعي الانفجار فمتعلّق بانهيار الشيوعيّة، وبالشعور بالخيبة تجاه ممارسات الدول الغربيّة تجاه حقوق الإنسان، وبالقلق تجاه رياح العولمة أيضاً كما يرى أمين معلوف؛ فبعد انهيار المنظومات المحلّيّة برز الإحساس بالخشية على القيم المحلّيّة مقابل العولمة فدفعت الخشية تيارات معيّنة إلى الانفتاح على انتماء قَبَلِي لكنّه يتجاوز حدود الدول الوطنيّة إلى العالميّة في نموذج الإسلام السياسي مثلا!

ومعلوف يأمل أن "المستقبل هو ما نفعله نحن" لذلك يدعو إلى وعي الانتماءات المتعددة التي تتضمنها هويّات الأفراد والحضارات؛ ويدعو إلى انفتاح الأفراد والحضارات للتأثير في رياح العولمة والمساهمة في صناعة وعي بالمشترك الإنساني بما يحقّق انتماءً لـ "القبيلة الكوكبيّة" عوضاً عن مواجهة العولمة الأميركيّة في صورة صراع بين الحضارات.

صراع الحضارات موضوعة الكتاب الذي نشره الاستراتيجي الأميركي "صموئيل هنتجتون" سنة 1994 ومنذ نشره أحدث الكتاب ضجة كبيرة؛ إذ عبّر كثير من قارئيه عن ارتيابهم لا من وعي هنتجتون للعالم بصورة حتميّة الصراع بين الحضارات/ الأديان استنادا إلى وعي الهويّة بوصفها "نحن الذين هم ضد الآخرين" فحسب؛ بل من أن تعمل الإدارة الأميركية على تحقيق تصورات هنتجتون على العالم وعلى الشرق الأوسط على وجه الخصوص!

وظل السؤال مشروعاً: هل ما حدث ولا يزال يحدث في الشرق الأوسط -وسوريا مثلا- من صراع بين المجتمعات على أساس ديني أو مذهبي أو عِرقي هو انعكاس لتصورات خاطئة افترضت حتميّتها رؤية كبرى للصراع بين المسيحية الأنجلو سكسونيّة مالكة الحضارة الليبراليّة الحاليّة كهويّة، وبين المسيحيّة الأرثوذكسية والإسلاميّة والبوذيّة والهندوسيّة كهويّات لحضارات أخرى مختلفة؛ وأنّ تلك الحتميّة الكبرى ترمي بظلالها على صراع الهويات الفرعية داخل تلك الحضارات غير الليبراليّة؟!

أمّ أنّ السؤال عن "الهويّة" سيطول نموذج الدولة الديمقراطيّة الليبراليّة ذاتها كما افترض الغذّامي وغيره!

على أيّة حال فإنّ مفكّرا ليبراليّا إنجليزيّا من أصول هنديّة اسمه "أمارتيا صن" لا يثق بحوار الحضارات فضلا عن إقراره بصراعها؛ لأنّ مثل هذا التصنيف –بحسب أمارتيا- مبني على "تجاهل التنوعات داخل كل حضارة، وإغفال العلاقات المتبادلة الممتدة بين الحضارات المختلفة"، وسيضغط -التصنيف الحضاري- لاحقا لتجاهل تنوّع الهويّات الفرعيّة داخل كل حضارة، وصولا بها إلى إنكار تنوّع الانتماءات داخل هويّة الفرد ذاته في متوالية يصفها أمارتيا بـ "خدعة تسجن الفرد في بعد أحادي"!

يبقى الأمر مرهونا أيضا بوعي وتقدير الأفراد السوريين لمحاسن هويّاتهم المركّبة والمتعدّدة الانتماءات، ومقدرتهم على التعبير عن أيٍّ من انتماءاتهم الفرعيّة والدّفاع عنها دون إلغاء الانتماءات الأخرى

سوريّا؛ وسواء أكان تقسيمنا إلى مناطق نفوذ: سني وشيعي ودرزي، وعربي وكردي وتركماني، وهيمنة قوى أمر واقع على تلك التقسيمات -ما عدا النموذج الدرزي الذي يبدو بخير حتى الآن- سواء أكان هذا التقسيم حقيقة نحن تسبّبنا بها، أو كان تأويلا خاطئا مارسته القوى العالميّة والإقليميّة علينا؛ فإنّ واقعنا اليوم أنّا أديان وطوائف وأعراق يصعب الحديث الجاد داخل كل منها عن قبول الآخر إلا بمزيد من الحذر تجاه عواقب هكذا خطاب لا شك سيصطدم مع مشاعر فئة واسعة من الموتورين المتألمين حقيقة نتيجة الصّراع؛ لكنّ لعلّ الأكثر خطورة من ذلك هو الاصطدام مع مصالح قوى أمر واقع من مصلحتها الاستمرار في ترويج خطاب "نحن الذين هم ضد الآخرين" إلى حين تبنّيها -دوليّاً- كممثلة عن "نحن" -محلّيّا- ثمّ تغيير تعبيرها عن مصالحها من فئويّة إلى اقتصاديّة عبر عقد تسوية فيما بين تلك القوى على تقاسم السلطة والاقتصاد والقرار السّياسي المرهون بدول أخرى أسوة بالنموذجين العراقي واللبناني!

بالمقابل: يبقى الأمر مرهونا أيضا بوعي وتقدير الأفراد السوريين لمحاسن هويّاتهم المركّبة والمتعدّدة الانتماءات، ومقدرتهم على التعبير عن أيٍّ من انتماءاتهم الفرعيّة والدّفاع عنها دون إلغاء الانتماءات الأخرى؛ للوقوف على عتبة مساواة مدنيّة بين الأفراد تُعيد السلطة إليهم في حال تم الاتفاق دوليّا على عقد تسوية ما في سوريا.