ترند الأحمدية وبعض الرومانسية السورية

2023.06.18 | 06:19 دمشق

ترند الأحمدية وبعض الرومانسية السورية
+A
حجم الخط
-A

مبدئيا دعونا نقول إن ما تعبر عنه صحفية الفضائح اللبنانية نضال الأحمدية دائما بما يخص وجود اللاجئين السوريين في لبنان يمثل رأي شريحة ليست قليلة من المجتمع اللبناني تجاه السوريين عموما وتجاه اللاجئين على وجه الخصوص. هذه الشريحة التي لطالما شعرت بالتفوق والاستعلاء تجاه كل ما يختص بسوريا، تعتقد فعلا أن لبنان مازال سويسرا الشرق رغم كل كوارثه ونكباته المجتمعية والاقتصادية والسياسية والأمنية. وأن هذه السويسرا المشرقية يحق لها أن تكون متفردة ومتميزة وتتمتع (بانسجام حضاري) في مكونات مجتمعها. متجاهلة، بكل حال، أن الحرب الأهلية لم تنته حتى الآن، وإن اتخذت أشكالا أكثر تمدنا من تشكيل الميليشيات المسلحة، وأنه أيضا لطالما كان يستمد موارده الأساسية (كهرباء وماء) من سوريا، جارته الوحيدة والأبدية، وأن التداخل الديموغرافي والأصول العائلية المشتركة والانتماء الحضاري الواحد بين سوريا ولبنان يمكنها أن تمحو بجردة واحدة كل تمايز أو امتياز أو تفوق عرقي.

طبعا لن نتحدث هنا عن المصير السياسي الواحد ولا عن الفساد المشترك والمتبادل ولا التهافت السياسي اللبناني لدي النظام السوري ومؤسساته الأمنية، ولن نتحدث عن التشاركية في تجارة المخدرات والكبتاغون الحالية؛ ولن نحكي عن الرجعية الدينية المتمثلة في المؤسسات الدينية اللبنانية (مسيحية وسنية وشيعية ودرزية)؛ كل ما سبق وغيره الكثير من المشتركات التي لم يستطع فصلُ لبنان عن سوريا عام 1943 إزالتها ومحيها، قد يكون ردا مناسبا على العنصرية اللبنانية التي تمثل نضال الأحمدية وجهها الأكثر فضائحية.

اللاجئون السوريون في لبنان هم ضحايا النظام السوري وضحايا إجرامه وإجرام جيشه وأمنه وحلفائه، وهم يعيشون في أسوأ ظروف إنسانية يمكن لكائن بشري أن يعيشها دون آن يكلفوا الميزانية اللبنانية قرشا واحدا

لو أردنا تفنيد ترهات وكلام العنصريين وآرائهم المثيرة للغثيان وللسخرية في الآن نفسه، فهي آراء تعبر عن جهل حقيقي، وعن استعلاء فارغ لا يستند إلا على أوهام تصنعها عادة المجتمعات الفاشلة ضمن سرديات لا تمت للواقع بأية صلة، لكنها تمنح أصحابها وهم سلطة لا يمتلكونها. وهو ما يظهر جليا في كلام واحدة مثل نضال الأحمدية لدى أي خلاف مع أحد، في شتائمها العلنية وفي ألفاظها السوقية، وترديدها لكلمات مثل (بقوصك، ببعتلك مين يربيك، عندي ناس بتخفيك من الأرض، بعتقلك، اعتقلوهن) إلى آخر هذه الكلمات التي يرددها، بالمناسبة، عدد كبير من اللبنانيين، ممن انتموا وقت الحرب الأهلية إلى ميليشيات مسلحة قاتلة، ولم يجروا أية مراجعة أخلاقية لما قاموا به وأحزابهم ذات يوم. وهي الكلمات ذاتها التي يرددها الشبيحة السوريون خلال العقد الماضي، والكثير من السوريين الذين كانوا يمارسون نوعا من التشبيح الخلبي قبل 2011.

قد يبدو طبيعيا أن يردّ سوريو الثورة ومن يقف معهم على عنصرية نضال الأحمدية ومن يشبهها، خصوصا في تصريحاتها الأخيرة، فاللاجئون السوريون في لبنان هم ضحايا النظام السوري وضحايا إجرامه وإجرام جيشه وأمنه وحلفائه، وهم يعيشون في أسوأ ظروف إنسانية يمكن لكائن بشري أن يعيشها دون أن يكلفوا الميزانية اللبنانية قرشا واحدا، وهو ما يعرفه الجميع، ذلك أن الأمم المتحدة طيلة الفترة الماضية كانت تخصص لهم مبلغا شهريا بالعملة الصعبة، هذا المبلغ يدخل في الدورة الاقتصادية اللبنانية، ولا أحد يعرف لماذا يتم تجاهل هذا الأمر بالغ الأهمية خصوصا في الكارثة الاقتصادية اللبنانية الحالية.

نقول إنه من الطبيعي الرد من سوريي الثورة على تصريحات الأحمدية ليس فقط لأن من تتنمر عليهم هم لحم هؤلاء السوريين ودمهم وعائلاتهم، بل لأن الأحمدية كانت ومازالت تصرح بدعمها لبشار الأسد وزوجته ونظامه وجيشه وكل أفعاله الإجرامية. وهي حين تتنمر على اللاجئين فهي تدرك تماما أنها تستهدف الشريحة التي استهدفها نظام الأسد نفسها (هي تصرح مثلا أنه ما من سبب يجعلها تكره أصالة نصري جدا سوى موقفها من النظام)! يمكن في هذا السياق أن نتذكر أيضا حوارها مع السورية (سوزان نجم الدين) التي زايدت على الأحمدية في التنمر والإساءة للاجئين السوريين.

في كل تصريحات الأحمدية السابقة وتصريحات ضيوفها السوريين الشبيحة كان سوريو الثورة يردون ويسخرون ويحتدون دون أن تظهر أصوات أحد من مؤيدي النظام، ودون أن يشكل الكلام (دائما كان قاسيا وسيئا وعنصريا ومتعاليا) الذي تقوله مع ضيوفها ومستضيفيها أي رد فعل جمعي من سوريي النظام ومؤيديه. ما الذي حصل إذاً في تصريحاتها الأخيرة حتى استنفر السوريون في مشارق الأرض ومغاربها، مؤيدين ومعارضين، شبيحة ورماديين وثوريين، نساء ورجالا، فنانين ومثقفين، لم يبق أحد من سوريا لم يُدل بدلوه فيما قالته الأحمدية عن السوريين ويهاجمها ويشتمها ويهزأ منها مستخدما عنصريتها ذاتها، بل مزايدا عليها في العنصرية في كثير مما قيل وكتب.

ما الأمر؟ ما الذي استفز السوريين جميعا إلى هذا الحد وجعل من الأحمدية وتصريحاتها (ترند) يشارك به الجميع؟ في رأيي ثمة عدة وجوه لهذا الاستنفار، الأول هو أن الأحمدية مست الشيء الوحيد الذي بات يجمع السوريين جميعا على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم وهو (المطبخ) السوري. قد لا يعرف الكثير من السوريين (الشوكولامو) لكن هذه الحلوى هي اختراع سوري بحت، واسمها هو اختراع سوري بحت أيضا، وفي ظني أن سوريين كثر كتبوا عن هذا خلال الأيام الماضية؛ وبالنسبة لجميع السوريين بات المطبخ هو الهوية الوحيدة المتبقية لهم من بين كل الهويات التي تعود إلى الوطن السوري. فكان رد الفعل العنيف على تصريحات سخيفة وساذجة هو في الحقيقة رد فعل على الخوف من فقدان آخر ما يمكنه أن يميز السوريين ويمنحهم حيثيات جمعية بعد أن فتت الحرب وأكلت وأتلفت كل القواسم المشتركة الأخرى. طبعا يضاف هذا إلى القوانين اللبنانية التي تصدر بين حين وآخر وتختص بوجود السوريين على أرض لبنان ووضع العوائق أمام تحركاتهم وتنقلاتهم خصوصا للقادمين من سوريا بقصد السفر أو القادمين من خارجها بقصد لقاء عائلاتهم القادمة من سوريا.

 غالبية السوريين ممن كانوا لسنوات قريبة جدا مؤيدين للنظام اكتشفوا أخيرا أنهم استخدموا كوقود للعائلة المقدسة، وأنهم بعد كل ما قدموه هم حاليا يعيشون داخل وطنهم أسوأ من عيشة اللاجئين في مخيمات لبنان

السبب الثاني في رأيي هو الأحمدية لأول مرة في تصريحاتها تقترب من انتقاد النظام السوري قليلا، حين قالت: (بشار الأسد ما بدو ياهن يرجعوا) في إشارة منها إلى ضرورة عودة اللاجئين إلى سوريا، كما أنها صرحت بأن السوريين يتعاملون مع لبنان بصفته محافظة سورية لا دولة مستقلة، وهذا حقيقي ونحن السوريين نشعر به دائما، لكن من رسخ هذه الفكرة عبر عقود هو النظام السوري (الذي صرحت الأحمدية مرات عديدة بمحبتها له) وهم السياسيون اللبنانيون المتهافتون عند أقدام النظام، هذا الانتقاد الضمني للنظام السوري لن يمر مرور الكرام عند حبايب النظام السوري وجماعته، فكان لا بد من الرد على جرأتها على النظام (جرأة سخيفة) بتسفيه ما قالت والاستهزاء منها وتذكيرها بأنها تجرأت على أسيادها من (السوريين).

وقد يكون آخر الأسباب والأكثر مواربة، هو أن غالبية السوريين ممن كانوا لسنوات قريبة جدا مؤيدين للنظام اكتشفوا أخيرا أنهم استخدموا كوقود للعائلة المقدسة، وأنهم بعد كل ما قدموه هم حاليا يعيشون داخل وطنهم أسوأ من عيشة اللاجئين في مخيمات لبنان، هؤلاء ممن فاض بهم الكيل في حياتهم اليومية، وما من حلول أمامهم، لا يستطيعون توجيه اللوم للنظام، لا يتجرؤون على فعل ذلك، هم يدركون جيدا ماذا ستكون عواقب مساءلتهم له عن أي شيء أو اعتراضهم على أي شيء. جاء ترند الأحمدية ليكون بمثابة برية يصرخون فيها دون أن يسمعهم أحد، طريقة لتنفيس الاحتقان المتراكم في دواخلهم دون الخوف من العقاب أو الأذية. أما الكلام عن وحدة السوريين ودفاعهم عن بعضهم بعضا فما هو إلا رغبات رومانسية نعرف جميعا أنها باتت مستحيلة.