icon
التغطية الحية

تداعيات على هوامش التعريب

2023.05.05 | 13:04 دمشق

ترجمة
+A
حجم الخط
-A

ليس لدى العرب سلطة مركزية ولا مؤسسات موحَّدة فعلياً، ولهذا تتباين المواقف والرؤى والمرجعيات في شتى المجالات، بما فيها الترجمة والتعريب. يضاف إلى ذلك زيادة تقديس وتمجيد اللغة، أي تجميدها، طرداً مع تناقص من يتقنونها، إن لم نقل تزايد الأمّيّة هنا وتفشّيها هناك.

في المقابل يندر أن نجد إشكاليات من هذا القبيل لدى المجتمعات التي أنجزت الفصل ما بين لغتها الحياتية ولغتها المقدسة.

بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى "انتفاضة الحجارة" 1987، دخلت كلمة "intifada" بيسر إلى الإنكليزية.

وبعد اتساع وانتشار مجاميع الشبيحة في سوريا ضد من ثاروا على نظام الطاغية الوريث 2011، دخلت كلمة "shabbiha" إلى الإنكليزية بيسر أيضاً.

وقد استدرجت الإنكليزية ودمجت في قاموسها عبر التاريخ مئات الكلمات ذات الأصل العربي.

وما فعله الإنكليز فعله الفرنسيون والسويديون والألمان وغيرهم.

صاحب الحاجة أو مخترعها هو الأولى بتسميتها. هكذا هي سنن الحياة ولا تزال، وقد شئنا ذلك بمهارة أحياناً، وأبيناه بنوع من الجهل أو الصلف أحياناً أخرى، غير أن الوقائع فرضته في الغالب كيفما اتفق خارج أي تخطيط أو ترشيد أو توجيه.

سأكتفي في حدود هذه المقالة بمقاربة ما أرمي إليه عبر مثالين فقط، الأول عن تعريب الألفاظ، والثاني عن تعريب المصطلحات. 

تعددت ترجمات أو تعريبات "التلفزيون" عن أصلها الإنكليزي أو لفظها الفرنسي، فقد عرّبها مجمع اللغة العربية إلى "التلفاز"، في حين عرَّبها الشيخ علي الطنطاوي (مواليد دمشق 1909) إلى "الرائي" مِن فعل رأى يرى، وعرَّبها أبو تراب الظاهري (مواليد الهند 1923) إلى "المِرناء" من فعل رنا يرنو.

سقط التعريب إلى "الرائي" خلال زمن قصير، ولم يدرج "المرناء" لا مشياً ولا زحفاً، غير أن "التلفاز" انتشر جزئياً في لغة الكتابة خارج الأحاديث اليومية.

وإذا كانت هذه واحدة من تجلّيّات مشكلتنا في تعريب وترجمة بعض الكلمات، فلا بد أن المشكلة في ما يخصّ تعريب وترجمة المصطلحات ستكون أشد وطأة، وتنفتح على تفاصيل تتخطى حدود التعريب، إلا أنها لا تبتعد كثيراً عن تداعياته.

لنأخذ مصطلح العَلمانية مثالاً. لم يتعرض تعريب هذا المصطلح إلى ما يزاحمه كما حدث في تعريب كلمة التلفزيون، ومع ذلك لم ينجُ تعريفه من إشكاليات ذات مستويات أعلى وأكثر تعقيداً.

في العربية لدينا مشكلة في فهم المعنى المقصود من "العلمانية" ومشكلة في معرفة إن كان أصل الاشتقاق العَلم أم العِلم وتضاف مشكلة ثالثة ناجمة عن حملات التضليل التي تربط العلمانية بالكفر

تتلخص العلمانية في أحد أبرز وجوهها بأنها المبدأ القائم على فصلِ الدولة عن الدين، واستقلال مؤسساتها وسّلطتها السّياسيّة عن السّلطة الدّينيّة وممثّليها، مع ضمان حرية الاعتقاد بكل المعاني الدينية والدنيوية.

ورغم أن المتدينين الذين يهربون من استبداد سلطات بلدانهم، ويلجؤون إلى دول علمانية وديمقراطية نسبياً، يجدون راحتهم وأمانهم في ممارسة طقوسهم وشعائرهم في تلك الدول، إلا أن ذلك لا يترتب عليه بالضرورة أي تغيير في موقفهم من العلمانية، ذلك لأن الأمر يحتاج إلى تفكيك الكثير من الالتباسات، إضافة إلى ضرورة إنجاز الكثير من المراكمات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي النهاية إلى ظروف دولية وإقليمية مواتية.

إن إشكالية مصطلح "العلمانية" عربياً، هي في الواقع أبعد وأعمق مما يبدو على السطح، ذلك لأن كثيرين يعتقدون أن العلمانية مشتقة من "العِلم" بكسر العين، وهناك بعض من أولئك الكثيرين يفترض أن العِلم يخلخل الإيمان، وعليه لا بدّ أن العلمانية كذلك. وحقيقة الحال أن "العَلمانية" بفتح العين ليست مشتقّة من العِلم، بل هي مشتقة من "العَلم" بفتح العين، والعَلم قاموسياً بمعنى العالَم، وهذا ما لا تعرفه نسبة ساحقة من العرب، وبالتالي قد تكون ترجمتها إلى (العالَمانية أو الدنيوية) أقل إرباكاً وأكثر إدراكاً لها بوصفها منهجاً فكرياً يرى أن الضوابط والقوانين وتنظيم العلاقات والتفاعلات البشرية مع الحياة ينبغي أن تقومَ على أساس دنيوي لا روحاني، وذلك من أجل ضمان وقوف جميع المواطنين على قدم المساواة في الحقوق والواجبات مهما تعددت الاعتقادات.

في اللغات الأخرى لا مشكلة في فهم العَلمانية ولا في اشتقاقها، فالعِلم في الإنكليزية مثلاً science، والعلمانية secularism. أما في العربية فإن لدينا مشكلة في فهم المعنى المقصود، ومشكلة في معرفة إن كان أصل الاشتقاق العَلم أم العِلم، وتضاف مشكلة ثالثة ناجمة عن حملات التضليل التي تربط العلمانية بالكفر، نتيجة جهل أصحاب تلك الحملات أو نتيجة تجاهلهم حقيقة أن العلمانية حيادية تجاه معتقدات الناس. إدراك تلك الحيادية سهل وملموس في كثير من الدول العلمانية الديمقراطية، ولهذا عادي جداً أن يجمع كثيرون بين تدينهم وبين انحيازهم للعلمانية كدولة في آن معاً، ذلك لأنهم اختبروا وخبروا أن العلمانية مطبَّقة على الجميع بغض النظر عن أديانهم. ووجود الكنائس والمساجد وشتى أنواع المعابد فيها يؤكد أن العلمانية ليست ضد الدين، بل ضد أن تقوم الدولة، أو أية جهة أخرى، باستخدام الدين لتمرير وتبرير سياساتها، كما كانت دول أوروبية عديدة تفعل في ظل تسلّط الكنيسة قديماً.

أفكِّر أحياناً في ما هو أبعد من ترجمة اللفظة أو المصطلح وأقرب إلى ترجمة الحصيلة والمغزى والروح، من قبيل النظر إلى العلمانية على أنها المبدأ الذي يعتبر الدنيا أُولى، والدين آخرة.