icon
التغطية الحية

بين هدم وتقديس جدران المثقفين السوريين الراحلين

2023.02.24 | 14:41 دمشق

الراحلين
لوحة: نورن هشام (عرب آرت)
+A
حجم الخط
-A

كتبتُ بتلقائية منشوراً، عن رحيل أحد الأصدقاء القدامى، اختار الصمت عن جرائم النظام بعد عام 2011، ثم ما لبث أن استفاد منه، فخصصت له جريدة زاوية أسبوعية، ثم تسلم رئاسة تحرير مجلة مهمة.

كان يمكن عدم الالتفات إلى ما اختاره الرجل في حياته، لولا شيئان، الأول أنه كان مناضلاً، وثائراً فيما مضى من الزمن، وقد دوّن في غير مكان جزءاً من سيرته الذاتية، وكتب فيه ما يشي بموقفه الجذري من السلطة، أي سلطة.

والثاني أنه في افتتاحيات أعداد المجلة كان يفتح النار على المؤامرة الكونية التي تستهدف المقاومة والممانعة!

فحوى ما قلته، يتلخص بأن البشر يخضعون لملهاة إنسانية، تغير مواقفهم، وتجعلهم ينقلبون على تاريخهم، لأسباب معلومة، وأخرى مجهولة.

لم أدون المنشور على صفحتي الشخصية من نوايا سيئة تجاه الراحل، إذ إنني ذات يوم كتبت مقالة تقريظية مطولة عن مجموعة قصصية عنه، في جريدة السفير اللبنانية. كما أنني أجريت معه حواراً مطولاً لجريدة الزمان اللندنية، في ذات الوقت الذي كان الإعلام الرسمي يتجاهله، ولا يقترب منه كمبدع بالشكل المطلوب.

غير أن هذا لم يشفع لي عند ابنته، التي أرسلت لي رسالة تقريعية تتهمني فيها بإهانة والدها، طالبة مني تخيل شعور ابنتي بعد أن يكتب عني أحد ما شيئاً مماثلاً عند رحيلي عن الدنيا، ثم حظرتني دون أن تسمع مني كلمة واحدة.

طلبت من ابنتي منبهاً ألا تنجر إلى أي ردة فعل إذا كتب عني أحد ما كلاماً سيئاً بعد أن يأخذ الرحمن أمانته، فأنا كاتب وصحفي ومشتغل في الثقافة والسياسة. وفي كليهما تزدهر الضغائن وقد تنجو بعض الصداقات. لكني ومثل أي شخص يشبه حالتي، أحوز عداوات كثيرة مع مؤيدي نظام الأسد الإجرامي، وما قد يماثلها مع أصدقاء سابقين، يجمعنا أننا في جهة الثورة، لكن لدينا ما يكفي من الخلافات لكي نشتم بَعْضَنا على الملأ!

لا يمكن إصلاح طريقة التعاطي العامة تجاه المواقف الخاصة بالحالة السورية، لا بل إنه من الطوباوي غير القابل للتحقق توقع استجابة إيجابية من الفضاء العام على مواقع التواصل الاجتماعي

يمكن احترام الخلافات كما الصداقات، طالما أنها تأتي بناءً على المواقف السياسية، لكن ما لا يمكن احترامه فيها: الخسة والخيانة والافتراء، وهذا ما صنعه بعض الأشخاص معي ومع غيري. ولكني في حالة الصديق السابق الراحل، كنت أوجه ملاحظاتي إلى الموقف السياسي الذي صار فيصلاً بيننا، ولم أتحدث عن أي شيء شخصي.

القصة تبدو بسيطة وصغيرة، فهناك شخص تذكّر مواقف شخص معروف، فأزعج ابنته، التي ترى أن أباها منزهٌ عن الخطأ فحاولت الدفاع عنه، واستجاب الفاعل بأن حذف المنشور مراعاة لمشاعرها.

لكن، هل سينجو الآخرون ممن رحلوا عن دنيانا بعد أن ذهبوا بعيداً في التعبير بشكل مثير عن الواقع السوري وما أفرزته الثورة وكذلك حرب النظام على الثائرين، من الهجوم الذي يخلط بين شخوصهم ومواقفهم؟

رحيل الشاعر والصحفي السيناريست السوري حكم البابا، وما تلاه من عاصفة تحقير لمواقفه المتطرفة، ضاعت معها أعماله الجيدة، لم يكن المشهد الأول في الملهاة الإنسانية في أنموذجها السوري، فهناك دائماً من يلغي تاريخ الشخصية المستهدفة لصالح الموقف السياسي أو سياق الممارسات اليومية، وهناك من يقدّس التاريخ الشخصي ويهمل الجوانب الأخرى.

لا يمكن إصلاح طريقة التعاطي العامة تجاه المواقف الخاصة بالحالة السورية، لا بل إنه من الطوباوي غير القابل للتحقق توقع استجابة إيجابية من الفضاء العام على مواقع التواصل الاجتماعي، تجاه أي شخصية، لها ما لها، وعليها ما عليها، كما يقال، حيث إن إبداء الرأي صوبها، لم يعد مجرد فعل تتيحه الأدوات التواصلية الحرة، ولم يعد مجرد ممارسة ديمقراطية؛ بل تحول بسبب تراكم الهزائم المتتالية للقضية السورية المحقة، إلى فعل تطهري، من سوداوية الواقع ومحاولة للنهوض عبر شخصنة العدو في ملامح ظاهرة لدى الشخصية المستهدفة.

يصف أحد الأصدقاء حكم البابا بأنه ركن من أركان الثورة المضادة في سوريا، بينما رثاه آخرون وكأنه داعية ثوري، نطق بـ "الحقيقة" في الوقت الذي حاول مثقفون آخرون مواراتها وإهالة التراب عليها.

لكن ما لا يستطيع أي من هؤلاء، هو تحديد حجم تأثير الراحل الفعلي على مجرى الحدث بالقياس مع فداحة الكارثة ذاتها، الأمر الذي يؤدي إلى التفكير مطولاً بحجم تأثير المثقفين، على ما جرى في سوريا، ولا سيما سيطرة الفصائل المسلحة وتحويلها لطريق الثورة إلى مسارات أخرى.

وفي الوقت نفسه، لن يستطيع أحد تزويق المواقف المتطرفة لحكم أو لغيره، بالاستناد إلى تاريخه الإبداعي أو النضالي في سبيل دعم الحراك الثوري عبر العمل الإعلامي.

التاريخ السياسي لأي شخص، له حائط يمكن أن يتم تعليق كل ردود الفعل عليه، السلبية قبل الإيجابية، كما للتاريخ الإبداعي حائطه الخاص.

وربما سيحاول أحد ما طلاء الجدارين باللون ذاته، لكن سيأتي آخر ليفعل شيئاً مختلفاً، وفي السياق ذاته سيحاول البعض هدم جدار وإبقاء آخر وربما يحاول هدم الجدارين! لكن من قال إن هذه الجدران تسقط وتبنى كما نريد نحن؟

صنع الراحلون جدرانهم الشخصية بطريقتهم، ولنا حق إبداء الرأي بما علقوه عليها، لكن لا نستطيع أن نهدمها، وربما الأولى بنا أن نعلق على جدراننا ما نراه صائباً ويستحق الاحترام.