بين حريّة الإنسان السوري وسلطة الأيقونة!

2024.02.26 | 10:19 دمشق

آخر تحديث: 26.02.2024 | 13:20 دمشق

بين حريّة الإنسان السوري وسلطة الأيقونة!
+A
حجم الخط
-A

في فيلم "الأرض" للمخرج المصري يوسف شاهين تعمّدت السّلطة قص شاربي "أبو سويلم"؛ فحزن الرجل ومعه كل أهل القرية؛ فالشاربان في عُرف أهل القرية كانا علامة على الكرامة!

لكن هل ثمة علاقة مباشرة بين "الشّاربين" كعلامة وبين الكرامة كمدلول؟

ثمة من قال إنّ العلاقة بين العلامة وما تدل عليه علاقة تطابق دائم؛ لكن ذلك سيعني أنّ المرأة مثلا بلا كرامة لأنّها لا تمتلك شاربين، وأنّ كرامة الرجل الذي يمتلك شارباً أكثر طولا أكبر من كرامة آخرين شاربهم أقلّ طولا!

ثمة من قال: لا علاقة "البتّة" بين العلامة وبين مدلولها، وهذا أيضاً قد يبدو منطقيّا إذا كنّا نتحدث عن شعر "عرنوس الذرة" مثلا؛ فعرنوس الذرة لا إرادة ولا كرامة له، لكن "أبو سويلم" كان إنساناً ذا إرادة، وهذه الإرادة تطلب الكرامة، والشاربان في عرف "أبو سويلم" وأهل القرية تعبير رمزيّ عن تلك الكرامة.

تشارلز بيرس فيلسوف وعالم منطق أميركي؛ ميّز بين ثلاثة أنواع من العلاقات بين العلامة وما تدل عليه:

- علاقة أيقونيّة: في الصور الشخصيّة مثلا؛ إذ تشبه الصورة تماما ما تدل عليه.

- علاقة إشارية: كعلامة الدخان على النار.

- علاقة رمزيّة: يصوغها الناس من ثقافتهم، ويتعارفون عليها.

وقد يُجري الناس، خلال سيرورتهم الثقافيّة، تعديلا في العلامات المعتمدة للإشارة إلى المدلول، فالشاربان مثلاً كانا -ذات يوم - علامة تدل على الكرامة، لكنّ المدلول ذاته "الكرامة" يمكن الإشارة إليه بعلامة ثانية في مكان وثقافة آخرين. لذلك عوّل بعض المهتمين في شأن دراسة "العلامة" على دور السّياق الزماني والمكاني في تفسيرها؛ إلّا أنّ تغيير العلاقة بين العلامة ومدلولها عادة ما يتضمّن تعديلاً- تغييراً ما كان قد حدث على مستوى العُرف فانسحب ذلك التغيير على الخطاب: السياسي والثقافي والأدبي.

"إطالة شعر الذقن" مثلا في ظل نظام كنظام الأسد، في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي على وجه الخصوص، كان سلوكا يمكن أن تفسّره السلطة الحاكمة كعلامة على رفض السلطة

ولعلّ في واقع حياتنا، نحن السوريين، ما يدعم رجاحته الرأي الأخير؛ فعلم الثورة السوريّة مثلا ما بين 2011 و2014 كان علامة رُفعت في وجه آلة القمع الحديديّة، والدلالة صنعها الذين راودتهم إرادة الحريّة فاستظلوا بالعلم وبإرادتهم للتغلب على خوفهم -الطبيعي- من أجهزة النظام الأمني، وكفّنوا بالعلم شهداءهم، ومسحوا به دموعهم، وثبتوا تحت ظله -بلا دعم دولي وقتها- بوجه تطرّف داعش وأخواتها؛ كل تلك السياقات صنعت لعلم الثورة دلالة رمزيّة؛ وبكل تأكيد ليست تلك الدلالة هي ذاتها حين حمل العلم آخرون في سياق آخر؛ فدلالة العلامة تختلف من سياق لآخر.

"إطالة شعر الذقن" مثلا في ظل نظام كنظام الأسد، في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي على وجه الخصوص، كان سلوكا يمكن أن تفسّره السلطة الحاكمة كعلامة على رفض السلطة، فيما أن حلاقة الذقن -ذاته- في أيام محنة السوريين مع سلطة "داعش" كان سلوكاً يمكن أن تُفسّره سلطة داعش كعلامة تمرّد ضدّها؛ أي أنّ دالّين مختلفين -إطالة شعر الذقن، وحلاقته - ظلّا يدلان على "مناكفة" من وجهة نظر السّلطة؛ رغم أنّ ممارسة ما هو طبيعي "حلاقة الذقن أو تركه" قد يكون مجرّد ممارسة صريحة لحريّة طبيعيّة، لا رمزيّة وراء تلك الممارسة!

أم أنّ السلطة الشموليّة -غير المستمدة من إرادة المواطنين بطبيعة الحال- تتوتّر من أي تعبير عن الإرادة الحرّة، أمّا الحامل الثقافي -القومي هناك، والديني هنا، وربّما الأممي هناك أيضاً ليس إلّا مناسبة!

في تحليل ما -نظنّه غير موفّق- قد يُفسَّر النسق السلطوي في الحالة السّوريّة، بكونه ناتج جملة علاقات سلطويّة بدأت من الأسرة، حيث سلطة الذكر المهيمن، مرورا برجال الدين، وكبار المسؤولين، وصولا إلى رأس الهرم السلطوي؛ ولعلّ مثل هذا التفسير كان ليكون أكثر توفيقاً لو تناول السلطة في مجتمعات أخرى انتهت إلى النظام الملكي، في حين أنّ نظرة أخرى إلى دولة جمهوريّة، وقعت فريسة حكم العسكر ثم الاستبداد السياسي والأمني، قد تُظهر نوعاً آخر من علاقات السلطة واتّجاهاتها!

في ظل السلطة الشموليّة ليست القضيّة أن تؤمن أو تلحد، أن ترتدي المرأة الحجاب أو تنزع المرأة الحجاب؛ هذه كلّها علامات سيظل البحث عن دلالاتها قاصرا إذا حمّلناها على إرادة الناس أنفسهم؛ في السلطة الشموليّة من المهم أن يفعل الناس ما تريده السّلطة!

ولعلّ ما يمكن أن يميّز السلطة الشموليّة -لدى نظام الأسد وغيره- أنها خطاب متناغم له رموزه ودلالاته، أما الأنساق الثقافية أو التاريخيّة فهي ليست أكثر من مناسبات!

إذ تبدأ السلطة -كامتياز لا استحقاق على حد رأي الدكتور عزمي بشارة في أكثر من واحد من مؤلّفاته- من رأس الهرم، ثم تتدرج الامتيازات السلطويّة مرورا بمسؤولين، ورجال دين، وصولا إلى سلطة الذكر المهيمن -كامتياز لا استحقاق- ومن ثمّ فإنّ تلك السلطة العُليا، صاحبة الامتياز الأوّل، لن تتورّع للحظة عن إهانة أي ذكر أو رجل دين إن أرخى لحيته، أو أطال شاربيه دون رخصة، أي ظهر منه نزوع إلى ممارسة السلطة كاستحقاق؛ ومن ثمّ فإنّ هذي العلامات وحواملها الثقافيّة لا تنتمي إلى جوهر السلطة بالطريقة الي ينتمي إليها "البوط العسكري" مثلا كعلامة تدل على القهر والإذلال!

لا يزال كثير من السوريين يتذكّرون يوم أصبح "باسل الأسد" أيقونة، وصارت صورة الأيقونة على "الهويّة" سلطة تجعل من صاحب الهويّة مباركاً في كل المؤسّسات الرسميّة

يرمز علم البلاد لحرية الناس بالانتماء لوطنهم، والاحتفاء بخارطة الوطن علامة على حق المواطن -عبر مواطنته- بامتلاك كل هذي المساحة، كل ذلك كان ليكون علامات على الحريّة لو كانت السلطة مستمدّة من إرادة النّاس؛ أمّا والسلطة شموليّة قاهرة فإنّها تتوتّر من حضور معنى الإرادة الحرّة لدى مواطنيها؛ فتعيد تعريف تلك الرموز لتعبّر عن إرادتها هي: حيث خارطة الوطن وعلم البلاد وكل الرموز يمكن استعمالها كهامش يزيّن صورة الزعيم؛ الصورة التي تحتل المساحة الأكبر، إنّها الأيقونة - ليس بالمعنى الذي تحدث عنه تشارلز بيرس- إنما الأيقونة بما تشير إليه بعض الثقافة المسيحية من قداسة، إذ تنتج صورة الزعيم، بمفردها، سلطة باذخة تستمر بالظّهور في نشرات الأخبار، وعلى دفاتر الطلّاب، وحوائط المدارس والمؤسسات، والمنشآت وأعمدة النّور، وألسنة المثقفين. إلخ.

في ظل حكم "الأيقونة" فإنّ ممارسة السلطة ليست استحقاقاً ذاتيّاً بل منحة، وربّما لا يزال كثير من السوريين يتذكّرون يوم أصبح "باسل الأسد" أيقونة، وصارت صورة الأيقونة على "الهويّة" سلطة تجعل من صاحب الهويّة مباركاً في كل المؤسّسات الرسميّة، بل إنّ ذقن "الأيقونة" منحت عناصر الجيش -وقتها- حقّا في مخالفة الأوامر العسكريّة بحلاقة الذقن يوميّا تعبيرا منهم عن الولاء للسلطة؛ إذ أصبحت الدلالة الجديدة على الولاء تتضمّن ترك شعر الذقن أيضاً!

على أيّة حال؛ يمكننا شتم نظام الأسد بوصفه نظام العائلة، أو نظام الطائفة، أو نظام الحزب الواحد، فهذي حيل سياسيّة بعدد أطياف المعارضة السياسيّة، وعدد أمزجة الطموحين بالوصول إلى السلطة - قبل إعادتها إلى السوريين العاديين- لكن بالمقابل يمكننا - نحن العاديين - قراءة نظام الاستبداد بوصفه "خطابا- System- " ينبغي قراءة علاماته، وتفكيكها ومعالجتها بخطاب حريّة؛ قراءة النّظام بوصفه "مرضاً" ينبغي تحليله واكتشاف كنهه كي لا نُصاب به؛ كي لا نكرر نموذجه باسم الطائفة أو القوميّة أو الأمميّة؛ كي نحذر من سلطة الأيقونات دائما.