"بيت خالة" السوريّين

2022.06.26 | 07:05 دمشق

580-3.jpg
+A
حجم الخط
-A

تذكر الكاتبة الأميركية (إلين سكاري) في كتابها "جسدٌ متألَم... صنعُ العالم وتفكيكه" أن الأشخاص الذين يمارسون التعذيب يضعون مسافةً فاصلةً بينهم وبين ضحاياهم، من خلال إنكار مكانة هؤلاء الضحايا ككائنات بشرية، والتعامل معهم على أنّهم مجرد رموز وأرقام؛ كما تُعطى الآلام التي يعانونها جراء التعذيب أسماء تافهة ومبتذلة، وكذلك أشكال وأدوات وأمكنة التعذيب، وهكذا قد يُطلق على فعل التعذيب أو ممارسته (الرقص) في الأرجنتين، أو (حفلة عيد ميلاد أحدهم) في الفيليبين، أو (حفلة شاي) في اليونان، ويسمى الألم الناتج عن التعذيب في البرازيل (الهاتف) وفي فيتنام (رحلة في الطائرة) وغيرها من الأوصاف الأخرى المبتذلة التي تنطوي على كمّ من السخرية والتفكّه، أو تكون الغاية منها التغطية والتعمية.

أمّا السوريون فقد تعارفوا فيما بينهم على مصطلح "بيت خالته" الذي تكرّر كثيرًا خلال الثورة على ألسنتهم كبديلٍ عن الاعتقال، هذا المصطلح الذي يرتبط في ذاكرة البشر بشكل عام ببيت أخت الأم الدافئ الحنون، تحوّلت دلالته لدى السوريين ليصبح بمنزلة الاستعارة التي تستخدم أحيانًا للتخفيف من هول وثقل الكلمة على السمع، كأن يستخدم الطبيب عبارات مخففة لتشخيص الحالة المتدهورة لدى المريض، فلا يصرّح بالشلل أو السرطان مباشرة بل يلجأ لعبارات أقل وطأةً على السمع، مثل خثرة في مقابل جلطة.

هذا المصطلح تحديدًا؛ ربما هو مستمدّ من القصص الشعبية القديمة التي تدور حول الأطفال الأيتام الذين ترعاهم زوجة الأب "الخالة"، والتي غالبًا ما تكون قاسية

إن القصص التي تروى عن فنون التعذيب في السجون السورية تفوق الخيال، وتبدو من هولها وشدة وحشيتها بعيدة عن الواقع، عميقة تحت الأرض، تنتمي إلى جغرافيا غير مرئية، وكأنها من عوالم غامضة بعيدة عن التصور، ربما كان في المصطلحات التي شاعت في أقبية التعذيب مثل: "بساط الريح" و"بيت الراحة" وغيرها من مصطلحات ذات طابع فكاهي ميلٌ للتخفيف من شدتها أيضًا، ليس مستغربًا أن يروي أحد الناجين من أقبية التعذيب قصصًا تحمل الطرفة في طياتها مع شدة مرارتها وقسوتها، وكلها تدور في فلك "بيت الخالة" هذا المصطلح تحديدًا؛ ربما هو مستمدّ من القصص الشعبية القديمة التي تدور حول الأطفال الأيتام الذين ترعاهم زوجة الأب "الخالة"، والتي غالبًا ما تكون قاسية، فالذاكرة الشعبية تكثر فيها مثل تلك القصص عن انتقام زوجة الأب من أطفال زوجها بطرق وحشية شتى.

في لقاءٍ أُجري مع سيّدة سوريّة من مدينة المعضميّة ضمن "مشروع التاريخ الشفهيّ"؛ تتحدّث السيّدة السوريّة فيه عن أثر الاعتقال عليها وذكرياتها مع "بيت الخالة"، تقول: "حين سألني أحد عناصر النظام الموجودين على الحاجز عن زوجي لم أعرف بمَ أجيبه، فضلّت أن أقول لهم إنّني لا أعرف شيئًا عنه، ليسخر ذاك العنصر مني قائلًا: "يعني ما بتعرفي إنه ببيت خالته؟" وكان سؤاله الساخر ذاك كفيل ببعث الألم والرعبّ فيّ، ثم وجدتها تذهب بذاكرتها بعيدًا وتعود إلى طفولتها، لتروي ذكرياتها عن بيت خالتها الكائن في الريف، وكيف اضمحلّت تلك الصورة الجميلة لبيت خالتها من ذاكرتها وحلّت محلّها صورة فظيعة لبيت خالة من نوعٍ آخر؛ عفّش النظام المجرم دفأه وحميميّته المعهودة في ذاكرة السوريين وحوّله إلى قطعة مصغّرة من الجحيم: "عندما أصبحتُ طالبةً في المرحلة الإعدادية، وفرضت علينا مدرّبة الفتوّة خلع الحجاب في دروس التربية العسكريّة؛ أخبرتُ والدي بقرار مدرّبة الفتوّة ليطلب مني ألّا أمتثل لأمرها، ثمّ أضاف: قولي لها والدي يرفض أن أخلع حجابي؛ لأنّه من جماعة الإخوان المسلمين! ألقى والدي بعبارته تلك بمنتهى البساطة، لكنّ الفزع والاضطّراب الذي اعترى أمّي في تلك اللحظة كان كفيلًا بجعلي أدرك خطورة ما تلفّظ به والدي.

لم أكن أعرف من هم الإخوان المسلمون، لكنّني حين تذكّرت الشعار الذي نردده كلّ صباح في تحيّة العلم والذي مفاده: سحق الإمبريالية والصهيونية وأداتهم المجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة؛ تخيّلتُ والدي عضوًا في عصابةٍ مجرمةٍ عميلة لإسرائيل، لم أستطِع استيعاب فكرة أن يكون والدي كذلك، كيف يكون عضوًا في عصابةٍ وهو يعمل في محلّه الكائن في الطابق الأرضيّ من البناء الذي نسكن فيه؟ ننام معًا ونستيقظ معًا! وحين حذّرتني أمّي من قول ذلك للمدرّبة لأنّ ذلك قد يكون سببًا في ذهاب أبي إلى "بيت خالته"، استغربت تحذيرها ذاك، لكنّني لم أكن أعرف شيئًا عن بيت خالة أبي التي تعيش في مكان بعيد لم تسبق لنا زيارته، ربّما بيتها ليس جميلاً كبيت خالتي! ولا توجد فيه أرجوحة قد نصبت على شجرة توت قديمة كتلك التي توجد في بيت خالتي.

عندما كبرت أدركت أسباب لجوء أمّي إلى تلك التورية، وكذلك لجوء معظم السوريين إلى تورياتٍ كهذه؛ الخوف والحذر من السلطات الأمنية في بلدٍ تمتلك حيطانه آذانًا، عرفنا أنّ الذاهب إلى "بيت خالته مفقود"، و"العائد منه مولود"، عرفنا ذلك حين خرج والد إحدى صديقاتنا الذي غاب في "بيت خالته" ما يقارب الخمسة عشر عامًا بسبب انتمائه إلى الإخوان المسلمين، لم نعرف من صديقتنا أيّة تفاصيل عن الفترة التي قضاها والدها هناك، فقد خرج مريضًا ولاذ بالصمت، لم تتشوّه صورة بيت الخالة في ذاكرتي، لأن صديقتي لم تروِ أيّة تفاصيل عن وجود والدها فيه، كلّ ذلك لم يشغلني، وإنّما لفتني ذلك "الجزدان" الصغير المشغول بإتقان من خرز ملوّن برّاق صنعه والدها من أجلها عندما كان في "بيت خالته"، عزّز "جزدانها" ذاك فكرتي الجميلة عن بيت الخالة الذي يشبه صندوق العجائب الحافل بكل ما هو قادر على إدهاش الطفولة البريئة.

"بيت الخالة" نسخة مصغّرة عن الجحيم في أكثر صوره قسوة وفظاعة، وفيه تمارس كلّ صنوف الإذلال والتعذيب على السوريين

بعد عام 2011 اكتشفنا أنّ بيت خالتنا الذي نفضّله على بيتنا في أحايين كثيرة، مختلف كلّ الاختلاف عن "بيت الخالة" الذي يذهب إليه الكبار ويغيبون؛ "بيت الخالة" نسخة مصغّرة عن الجحيم في أكثر صوره قسوة وفظاعة، وفيه تمارس كلّ صنوف الإذلال والتعذيب على السوريين؛ بغية انتزاع اعترافات منهم عن تهم لم تخطر لهم يومًا على بال، فضلًا عن ارتكابها، ولشدّة التعذيب الذي يصبّ على أرواحهم قبل أجسادهم؛ يعترفون بكلّ التهم المنسوبة إليهم، حتّى إنّ المعتقلين القدامى ينصحون الوافدين الجدد إلى "بيت خالتهم" أن يختصروا فصول العذاب ويعترفوا بالتهم المنسوبة إليهم منذ البداية، هكذا نصح سجناء قدامى أخي حين اعتقل، أخبروه أنّهم توقفوا عن تعذيبهم حين اعترفوا، لكنّ هاتفًا داخليًا منعه من الاعتراف، ظلّ مصرًا على الإنكار إلى أن سئم الضابط المسؤول عن التحقيق معه، وقرر الانصراف إلى غيره، ليتابع حفلاته التي تعثّرت إحداها مع أخي، وبينما ظنّ الناصحون لأخي أنّهم باعترافاتهم تلك قد نجوا بعد أن توقّفت حفلات التعذيب ضدّهم، كانت الحقيقة المرّة التي ربّما لم يُقدّر لهم أن يعيشوا ليدركوها؛ أنّها نجاة مؤقتة، وأنّهم باعترافاتهم تلك قد حجزوا مكانًا لهم وراء الشمس، هناك أيضًا فروقٌ بين الاستعارات التي يخلعها السوريون على السجون والمعتقلات من حيث الأمل؛ من يذهب إلى "بيت خالته" قد يعود منه، أمّا من يذهب وراء الشمس فذلك يعني أنّه لن يعود ويرى الشمس مجدّدًا.

تتابع تلك السيّدة: "إنّها دعت الله في تلك اللحظة أن يمنّ على زوجها بالخلاص من أيدي أولئك المجرمين وإن كان خلاصه بالموت، فذلك أرحم لهم وله!".

لم يعد غريبًا بعد أن ظهرت روايات كثيرة للناجين عما يحدث في "بيت خالة" السوريين؛ أن يرفع ذوو الذاهب هناك، إلى "بيت خالته" أيديهم إلى السماء، ويتضرّعوا إلى الله أن يرحم ابنهم ويمنّ عليه بالموت، وألّا يبقى حيًّا لوقت طويل تحت رحمة تلك الوحوش التي "عفّشت" ذاكرتنا والدفء الحميم في تفاصيلها قبل أن "تعفّش" الروح منا والجسد وكلّ ما يمتّ لحياتنا ووجودنا بصلة.