icon
التغطية الحية

"بوعلي ياسين" الأديب الساخر الثائر

2020.12.24 | 23:15 دمشق

d8a7d984d8abd8a7d984d988d8ab-d8a7d984d985d8add8b1d985-d8a8d988d8b9d984d98a-d98ad8a7d8b3d98ad986.jpg
الكاتب السوري "بوعلي ياسين" ـ إنترنت
خطيب بدلة
+A
حجم الخط
-A

بوعلي ياسين (1942- 2000) كاتب سوري ثائر، ملأ صيتُه الآفاق في حقبة زمنية معينة. اسمه الأصلي ياسين حسن، ولكن اسم "بوعلي" الذي أطلقه عليه بعض أصدقائه التصق به، فما عاد له من فكاك.

قلت إن بوعلي ياسين (ثائر)، وأعتقد أن هذه الكلمة تلخص تركيبته الشخصية، وتاريخه، وحياته القصيرة، فعندما كان في سن الرابعة عشرة أعجب بجمال عبد الناصر لأنه أمم قناة السويس، ثم تراجع عن حبه إياه عندما اكتشف أنه يؤسس لنظام مخابراتي.. وكان قد حصل على بعثة للدراسة في مصر، ولكن الأحوال اضطربت على إثر الانفصال 1961، وساءت العلاقة مع الطلاب السوريين، فجرى استبدال البعثة، وذهب إلى ألمانيا الغربية سنة 1962، لدراسة العلوم الاقتصادية التطبيقية في جامعتي بون وماينس.

انتسب بوعلي إلى حزب البعث قبل وصوله إلى السلطة، وخلال دراسته في ألمانيا أصبح أميناً للحلقة الحزبية، وفي تلك الفترة، غادر حزب البعث بعدما لمس جنوحه نحو التسلط والاستبداد، ولم ينتسب بعد ذلك إلى أي حزب آخر طيلة حياته.

خلال وجوده في ألمانيا، كان أحد أساتذته يغالي في عدائه للفكر الاشتراكي، فدفعه ذلك إلى قراءة مؤلفات كارل ماركس، بلغتها الأم، فتحمس، وأصبح من معتنقي الماركسية، وكان من أشد المعجبين بشخصية روزا لوكسمبورغ، حتى إنه سمى ابنته الكبرى روزا (وهي روزا ياسين حسن، الروائية المعروفة الآن).. ولعل أطرف ما في سيرة بوعلي أنه شارك في ما عُرف باسم "كومونة فرانكفورت" سنة 1968، وهي اعتصام طلابي مشابه لكومونة باريس. وكان ينظر إلى الماركسية بنسختها العربية، بمعنى كيفية القدرة على تطبيق النظرية الماركسية ضمن خصوصيات المجتمعات العربية.

كانت لـ بوعلي صديقة ألمانية ماركسية ثائرة، مثله، اسمها "ألفونسه"، جاءت معه إلى سوريا، وانخرطت في صفوف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. لم يتزوجها، بل تزوج من سيدة سورية أنجبت له ثلاث بنات هن: روزا وتهامة وليال. وبقيت صداقته مع ألفونسه مستمرة إلى آخر العمر.

يستطيع مَن يدرس سيرة بوعلي ياسين الفكرية والأدبية والثقافية أن يغامر بالقول إن كتبه هي الأكثر إثارة، والأكثر منعاً في سوريا. ويكاد معظم متابعيه يتفقون على أن مأثرته الكبرى هي كتابُه (الثالوث المقدس- الدين، الجنس، السياسة) الذي صدر في سنة 1973، وأحدث صدمة لا تقل عن صدمة كتاب طه حسين "في الأدب الجاهلي"، فالكتاب، ببساطة، يخترق التابوهات الثلاثة الكبرى، ويستخف بالرقابات السياسية والأمنية والاجتماعية.. وفي سنة 1984 أصدر واحداً من أهم كتبه "خير الزاد من حكايا شهرزاد"، وهو عبارة عن دراسة معمقة لما يمكن تسميته "علم الاجتماع الأدبي"، بمعنى دراسة الأدب من منظور اجتماعي ثقافي.

 وأما كتابه (عين الزهور- سيرة ضاحكة) فقد قوبل بردود فعل اجتماعية قوية، حتى اضطرت السلطة السياسية إلى منعه، وسحبه من المكتبات، وقد تطرقنا – في حديث سابق - إلى ردود الأفعال القوية التي أحدثها كتابه المشترك مع الناقد والروائي نبيل سليمان "الأدب والإيديولوجية في سورية"..

يعتبر بوعلي ياسين واحداً من الكتاب ذوي الطاقة الجبارة، بمعنى غزارة الإنتاج الفكري والأدبي خلال زمن قصير، يشترك في هذه الخاصية مع أبي خليل القباني، وحسيب كيالي، وممدوح عدوان، ومحمد كامل الخطيب.. مع أنه كان أقصرهم عمراً. (مات في قمة النضج والعطاء، عن 58 سنة).    

عدا عن مؤلفاته الفكرية والاقتصادية السياسية المثيرة للجدل، يتفرد بوعلي ياسين بالدراسات الاجتماعية. ولئن كان الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون قد اهتم للبحث في فلسفة الضحك، وألف فيها كتاباً، فقد قابله بوعلي ياسين ببحث ذي طبيعة محلية، فأصدر كتاباً بعنوان "أدب النكتة في سورية"، وكتاباً آخر بعنوان "بيان الحد بين الهزل والجد"، وقبل رحيله بسنة واحدة أصدر كتاب "شمسات شباطية".. ولعنوان هذا الكتاب فلسفة عجيبة، وهي أن الفلاحين يمضون الشتاء بطوله وهم يعانون من البرد والزمهرير، وفي شهر شباط تبدأ الشمس بالظهور على نحو متقطع، فتبعث فيهم قليلاً من الدفء، ويبدؤون بالخروج إلى الشمس، يضعون تحتهم ما يتيسر من حصر وسجاجيد عتيقة، ويتشمسون.. وخلال تشمسهم يتداولون قصصاً وحكايات تدفع إلى الضحك أو الابتسام..

أراد بوعلي أن يكون كتاب "عين الزهور- سيرة ضاحكة" تأريخاً شعبياً لحياة الناس في قريته ومنطقته وفي سوريا كلها.. وقد وضع في مقدمته ملخص نظرته الفلسفية إلى الضحك، فقال: تقصدتُ أن تكون السيرة ضاحكة، غير متحرج من الضحك حتى على نفسي. وكتب أيضاً:

(للحياة، كيفما كانت، وجهان: وجه عابس، ووجه باسمٌ خجول. في الأحوال العادية لحياتنا يختفي الوجه الباسم الخجول وراء الوجه العابس. قلت لنفسي: لماذا لا أقوم، على مبدأ السحر، بقلبها ثقافياً؟ هكذا فعلتُ، حاولت إبراز الوجه المشرق الضحوك، على حساب الوجه العابس. أردت أن يضحك القارئ، لأن الضحك ما منع معرفةً قط، ولا قصر في تقديم الفائدة)..

من جهة أخرى، كتب بوعلي ياسين عدة كتب عن المرأة وحقوق المرأة، كما أنه كتب كثيرا من الدراسات والأبحاث الاقتصادية، وله واحد من الكتب المهمة للغاية وهو "حكاية الفلاح السوري، القطن وظاهرة الإنتاج الأحادي"، تحدّث فيها عن الكارثة التي ستطول الاقتصاد السوري في حال ظل الإنتاج الاقتصادي الزراعي أحادياً، وعلى سبيل المثال ما حدث بسبب زراعة القطن لسنوات طويلة متتالية من تصحير للتربة السورية في كثير من المناطق ومنها منطقة شرق حمص والسلمية.  

أخيراً: ومما أخبرني به الصديق الأديب الكبير نبيل سليمان، مشكوراً، أن بوعلي ياسين كان رجلاً زاهداً بكل شيء (عدا الفكر والأدب)، وقد تحول في عَشر السنوات الأخيرة من حياته إلى رجل "نباتي"، وكان يكره الظهور على المنصات الثقافية والإعلامية، خفيف الظل في كتاباته، ولكنه، في المجالس كان أميل إلى الصمت، ومن نشاطاته المهمة أيضاً أنه كان يترجم عن الألمانية. فقد ترجم بعض مؤلفات إرزولا شوي، وإيريك فروم، إضافة إلى كتاب سيجموند فرويد (الطوطم والتابو) الذي كان جورج طرابيشي قد ترجمه عن الفرنسية بعنوان (الطوطم والحرام).. وبو علي هو الوحيد الذي ترجم قصص بريشت القصيرة إلى العربية، ووثائق الوكالة اليهودية، وقبل وفاته أودع لدى نبيل مخطوط قصائد شعرية نثرية ساخرة (وضاحكة) عنوانها "قَرْوَشَات عاشق خائب".

كان بوعلي يعتبر أن جزءاً من الفهم الخاطئ لماركس كان له علاقة بالترجمة، لذلك فقد أراد إعادة ترجمة ماركس، وبدأ بمشروع الترجمة، وللأسف لم يمكّنه القدر من ذلك.

(أشكر الأستاذين نبيل سليمان وروزا ياسين حسن على الإضافات المهمة التي قدماها لهذه المقالة)..