بلا نسب

2021.01.27 | 00:16 دمشق

53485394_1201232710038339_1363015825665032192_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

ضجّت وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية الحكومية في الآونة الأخيرة، بحادثة مقبرة الأطفال الجماعية التي عُثر عليها في إيرلندا بعد سلسلة من التحقيقات أثبتت تورط الكنيسة الكاثوليكية فيها، ما أدى إلى تقديم الحكومة والكنيسة اعتذاراً رسمياً للضحايا وللشعب الإيرلندي تحت ضغط الرأي العام والمنظمات الحقوقية.

إن القضية في هذا الصدد تعد شائكة بعض الشيء فيتقاسم فيها الحقوق الأم والطفل معاً، فحتى لو كان البعض قد يذنّب المرأة إلا أننا هنا أمام قضية تتعلق بحق الطفل بشكل أساسي، وهو الأمر الذي ترفض الدول والمنظمات الحقوقية والإنسانية التهاون فيه من ناحية حقه بالحياة أو حقه بالنسب.

بالدخول من هذا الباب إلى باب بعض القضايا السورية المزمنة والمعاصرة، فإن محنة المرأة السورية محنة قديمة لا تقتصر على حرمانها من منح الجنسية لأبنائها فحسب، إذ إنها ما زالت تعد منقوصة الحقوق وعليها الانصياع دائما تحت عباءة الذكورة وفقاً للعرف المجتمعي السائد.

فيهبها بعضاً من حريتها حيناً أو يحرمها منها كلها في أحيان كثيرة أخرى بحسب وعيه أو منبته الثقافي، فمن جريمة الشرف إلى الاعتراف بها أماً عازبة مطلقة أو أرملة أو متزوجة، صدعٌ عجز القانون عن رأبه، وذلك في حال كان القانون وحده مظلة تظلل الجميع وتعد بالمساواة في الحقوق كما في الواجبات.

في أثناء الثورة السورية تكبدت الأنثى كثيراً من المشقة غير الاعتيادية في ظل غياب شبه تام لوجود رب الأسرة أو المعيل والسند، فكان لزاماً عليها أداء دور الأب والأم لأسباب لسنا بصدد تعدادها.

عدد المعتقلات السوريات اللواتي ما يزلن مختفيات قسرياً في ازدياد، وفي ذلك ما يؤكد تعرضها المستمر للتعذيب الممنهج والمرتجل في آن معاً

ومع ذلك فقد عانت في كثير من الحالات بعد اعتقالها أو تعرضها للاختفاء القسري رفضا مجتمعياً، بل حملتها بعض المجتمعات وزر اعتقالها وأجبرتها على دفع ثمنه أضعافاً مضاعفة.

تؤكد إحصائيات المنظمات المدنية والحقوقية والإنسانية المهتمة بالشأن السوري، أن عدد المعتقلات السوريات اللواتي ما يزلن مختفيات قسرياً في ازدياد، وفي ذلك ما يؤكد تعرضها المستمر للتعذيب الممنهج والمرتجل في آن معاً، ولسنا هنا بصدد ذكر أدوات النظام الوحشية في التعذيب، لكن موضوعنا يمس مساساً مباشرا أسلوب النظام في التعذيب الجسدي والنفسي الأكثر قسوة في مجتمعاتنا ألا وهو الاغتصاب.

غالباً ما ترفض النساء الاعتراف أنهن تعرضن لهذه التجربة المريرة خوفاً من التبعات الاجتماعية لتلك الجريمة التي يتهيأ للمرأة في أحيان كثيرة أنها الجاني والمذنب فيها، وذلك بسبب الأذى النفسي الذي تعانيه جراء الحادثة أو اتهام المجتمع لها بذلك واعتبار الحادثة عاراً، عاملين على تجاهله وطمسه بطرق مختلفة.

غاضين البصر بذلك أيضاً عن الفاعل وعاجزين عن تحميله مسؤولياته وتبعات جريمته، بتجريم الحلقة الأضعف في الحكاية.

تخرج الأنثى من المعتقل _ في حالات حسن الحظ النادرة_ متناسية عذاباتها الجسدية كلها حاملة وزرها الاجتماعي كونها أنثى مغتصبة، فتتعمد إنكار الحقيقة أو إخفاءها وعدم التجرؤ على الحديث عنها كي لا تضطر إلى مواجهة المجتمع.

تحتاج النساء في هذه الحالات إلى علاج نفسي مستمر وبيئة اجتماعية آمنة ومتفهمة، إذ يجب العمل على تخليصها من إحساسها بالذنب لتستطيع الإشارة بإصبع الاتهام إلى المذنب، ثم بعد ذلك تستطيع المطالبة بحقها أمام القانون إذا كان ذلك متاحاً في الدول التي تحترم القانون وتهتم لحقوق الإنسان.

توثيق حالات الاغتصاب التي حصلت في المعتقلات، ما زال يعاني من الصعوبة في إقناع الناجية من المعتقل بالحديث عما جرى معها أو من خلال شاهدات على الاغتصاب

الأمر الذي قد يثير السخرية هنا، أننا نسعى كنساء للمطالبة بحقنا أمام القانون الذي يدعم ويتعامى عن المجرمين الحقيقيين في المؤسسات الأمنية، أو ينفي المسؤولية عن مرتكبي جرائم الشرف ويتكوّن أساساً من أشخاص لا حول لهم ولا قوة يعملون ضمن عجلة نظام قمعي ودولة بوليسية.

وعلى الرغم من تعالي أصوات النساء في المطالبة بحقوقهن فإن توثيق حالات الاغتصاب التي حصلت في المعتقلات، ما زال يعاني من الصعوبة في إقناع الناجية من المعتقل بالحديث عما جرى معها أو من خلال شاهدات على الاغتصاب، ذلك أنه يسهل على الناجية الاعتراف باغتصاب رفيقاتها في المعتقل أكثر مما يسهل عليها الاعتراف بما حصل لها هي.

النقطة الأكثر أهمية هنا أن الاغتصاب -سواء كان في المعتقل أم خارجه- قد يُنتج في بعض الحالات حملاً غالباً ما يتعامل معه المجتمع بطريقة وحشية إذ يحرض على قتل الطفل أو الأم والطفل معاً أو يتشارك في نبذهما.

وهنا نعود إلى الموضوع الأساسي، كيف يمكن أن نتعامل وفقاً لهذا القصور المجتمعي والقانوني مع هذه الحالات التي تزداد نسبتها في أوقات الحروب.

تعتمد الدول التي تُعلي شأن حقوق الإنسان في هذه الحالات المسببة لإشكاليات اجتماعية على أولوية حقوق الطفل، فبصرف النظر عن آلية خروج الطفل إلى هذا العالم وحيثيات عملية الحمل والإنجاب، فإن حصول الطفل على حقوقه الأساسية مثل حق الحياة أو حق الحصول على نسب واعتراف المجتمع به واحترامه لوجوده ليس محل نقاش وأمر مفروغ منه.

بينما تتناقض في مجتمعاتنا القوانين بعضها ببعضه الآخر وتتقدم فيه الغايات الشخصية على الغايات العامة، ذلك أنها تحرّم الإجهاض ثم تتعامل مع الطفل المولود على أنه رقم زائد مجرد من حقوقه الإنسانية الأخرى.

إن أقل ما يمكن أن يقال في التناقض في قوانيننا الوضعية، أنه بقدر ما هو مثار للنقاش والجدل فهو مدعاة للخزي، إذ نحيا في تجمعات يصبح فيها القانون والمجتمع جلادين ومجرمين بمشاركة الجناة الأساسيين على حد سواء.