بقعٌ من العتمة

2019.04.10 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لم يكن السوادُ حالكاً في تاريخ سوريا كما هو الآن، بُقعٌ متناثرة من العتمة والتصحّر والظلم. مشاهد متفرّقة ومقاطع من يوميّات الوجع السوري، تتناثر على قارعة الطرق وفوق الأرصفة، وتزاحم لوحات الموت المرسومة بأجسادٍ هزيلة وبأرواح هائمة لا تعرف للسكينة درباً ولا للألم نهاية.

تطالعنا – نحن المنفيّين قسراً – يوميّاً قصصُ المعاناة التي لا تنتهي، نقرأ ونسمع ونشاهد أطفالاً شوّهتهم الحرب وحطّمت أحلامهم وعقولهم وقلوبهم الصغيرة، قبل أن تهشّم أكفّهم الناعمة وتمزّق حبالهم الصوتيّة الندِيّة.

تقسو علينا الأخبار التي تتناقلها الألسن والشفاه، تقتُلنا القصص التي يُخبرنا بها الأهل والأصدقاء ممن لم يسعفهم الموت بالخلاص الباكر من الحياة، تحطّمنا الصور المُنتقاة والمشاهدُ المُعالجةُ بالمؤثّرات الصوتيّة والمجمّلة بألوان غير حقيقيّة، فكيف بمن يعيشها منذ ثمانية أعوام باللّون الأسود القاتم ذاته بدون رتوش أو تجميل؟

من بين جبال الأخبار المرعبة، تصدمنا صور الأطفال المرمييّن على عتبات المساجد والكنائس في دمشق وحلب واللاذقية وغيرها من المدن السورية

المشهد رثائيّ بكلّ ما للكلمة من معنى، وليست المأساة محصورةً بتلك الكتلة البشريّة المحسوبة على من عارض الظلم والعبوديّة طلباً للحقّ والعدل والكرامة، بل تمتدّ لتشمل كلّ من شارك في صفّ الاستبداد وحمل السلاح، أيّ سلاح حارب به، بدءاً من القلم واللسان وانتهاءً بالبرميل والدبّابة والطيارة، وتشمل أيضاً كلّ من سكت خوفاً أو طمعاً أو عن قناعة بعدم الجدوى أو عدم الأحقيّة أو غيرها من أسباب الحيادِ الزائف أو النكوص أو التخلّي.

صيرورة بناها التراكم الهائل للظلم والقهر والاستعباد، نتيجة أسسّ لها التدخّل المكثّف لعوامل داخليّة وأخرى خارجيّة، سياقٌ كاملٌ من المصالح المتشابكة بين دول الإقليم ودول أخرى، وجدت في سوريا الحلقة الأنسب لكسر سلسلة ثورات الشعوب على أنظمة الحكم الاستبداديّة الجاثمة على الصدور منذ نصف قرن وأكثر، رغماً عن قوانين التاريخ ومتطلّبات التغيير والحداثة والتطوّر.

من بين جبال الأخبار المرعبة، تصدمنا صور الأطفال المرمييّن على عتبات المساجد والكنائس في دمشق وحلب واللاذقية وغيرها من المدن السورية. تطلّ علينا فتاة حيّ الشاغور التي أدمنت رئتاها الطريّتان مفعول المادّة المخدّرة في مُنتج صناعي يُستعمل كلاصق للجلديات. تقتلنا مشاهد العار ممن ادعى قتل شقيقته رشا اتقاءً للعار في جرابلس، وممّن ادعى قتل ابنته ديانا في السويداء بنفس الحجّة الحقيرة.

من بين مشاهد العبوديّة والوضاعة والذلّ والمهانة، تتفوّق أخبار دريد لحّام وهو يتبرّع بولاية كالفورنيا للمكسيك ردّاً على اعتراف ترامب بسيادة إسرائيل على الجولان، تتفوّق حتّى على صورة جموع القادة العسكريين والمدنيين وجموع الحشود الغفيرة وقد زرعت أعلام الوطن في كومة تراب ادّعت إنها من الجولان المحتل، هاتفة بحياة القائد الهُمام مجدّدة عهد الولاء المطلق.

تُتحفنا وسائل الإعلام الموالية ببطولات الفنّان المغوار علي الديك، إذ ينتصر لرئيسه وينتصف له ممن اتهم أباه ببيع الجولان. تُفحمنا فصاحةُ الجعفري إذ يمتشق سيف الوطنيّة في مجلس الأمن ضدّ قرار الاعتراف بسيادة إسرائيل، بينما يغرّد وزير الأمن العام الإسرائيلي جلعاد إردان على تويتر متهكّماً، بأنّه ما من عاقل يرى أنه يجب إعطاءُ الجولان للأسد وإيران كي يدمرانها كما فعلا ببقية المناطق السوريّة! حتّى هذا الرئيس المسخ لا يتورّع عن تقريع حسام الطير أحد أعتى شبّيحته الإعلاميين، عندما تجرّأ على انتقاد بعض مظاهر الفساد في جمهوريّة الأسد الفاضلة، بل إنّه قرّع من يسأل عن مصيره بعد أن تواردت أخبارٌ عن مقتله تحت التعذيب في أقبية مخابراته.

هذه هي سوريا اليوم، سوريا الأسد، سوريا إيران وروسيا، هكذا قبلنا عليها أن تكون عندما سكتنا وآباؤنا عن انقلابات العسكر، وعندما وقف قسمٌ منّا في وجه من أراد تغيير الأحوال إلى ما يمكن أن تستحقّه منّا ونستحقّه من هذه الحياة، وعندما وقف قسم كبيرٌ آخر خائفاً مرعوباً أو راغباً طامعاً على حيادٍ مزعوم لا وجود له في الواقع.

لم يكن للسوريّين من بديل سوى الثورة، ولو عادت بهم الأيام أدراجها لعادوا إلى ما بدؤوه قبل ثمانية أعوام. لكنّ الثورة لم تكن هدفهم ولا مطلبهم، لأنهم يعرفون سلفاً ما يمكن أن يفعله المجرمون بهم فيما لو ثاروا، لقد كانوا ينشدون التغيير بالطرق السلميّة، فكان ربيع دمشق وكان حراك المنتديات بعد وفاة الديكتاتور الأب، لكنّ النظام لا يقبل أيّ تنازل ولو قيد شعرة، لذلك كلّه كانت الثورة، لكنّها لم تأت في الوقت المناسب على ما يبدو، لقد كانت العوامل الخارجيّة أكبر وأكثر تأثيراً من إرادة السوريين الطامحين للتغيير، ويجب ألّا ينسى المرء الانقسام الحادّ داخل المجتمع السوري أيضاً، فلم تكن الثورة في مصلحة فئات كثيرة منهم، أو أنّها لم تستطع أن تقنعهم بأنّ النتائج النهائيّة المرجوّة منها ستكون من صالحهم.

لم يكن للسوريّين من بديل سوى الثورة، ولو عادت بهم الأيام أدراجها لعادوا إلى ما بدأوه قبل ثمانية أعوام

لقد وقفت شرائح لا بأس بها من السوريّين ضدّ الثورة منذ يومها الأوّل، وقبل أن يخطر على بال أيّ من الثائرين الأوائل فكرة عسكرة الثورة، كانت فئات كثيرة تتسلّح على خلفيّات طائفيّة ومذهبيّة وقد حسمت أمرها منذ أن ثار التونسيّون إثر إشعال البوعزيزي النار في نفسه.

يقول الدكتور مصطفى حجازي في كتابه، "التخلّف الاجتماعي: مدخلٌ إلى سيكولوجيّة الإنسان المقهور" ما يلي:

"إنّ الإنسان المقهور في المجتمع المتخلف يحس بالغربة في بلده، يحس بأنه لا يملك شيئاً، حتى المرافق العامة يحسُّ أنها ملك للسلطة، وليست مسألة تسهيلات حياتية له هو. ذلك أن الهوّة كبيرة جداً بينه وبينها، وأنّ ما يستحقه من خدمات وتقديرات تُقدم له -إذا قدمت - كمنة أو فضل، لا كواجب مُستحقٍ له. عندما يُخربُ المرافق العامة فهو يعبر عن عدوانيّته تجاه المتسلط...

إن التلذّذ في مهانة الإنسان المستضعف والبطش به تحت ستار ممارسة وظيفة الحفاظ على الأمن، يشير إلى المرض العلائقي الذي ينخر بنية العالم المتخلف...

الإنسان المقهور يراهن على خلاصه على يد الزعيم المنقذ، دون أن يعطي لنفسه دوراً في السعي لهذا الخلاص، سوى دور التابع المعجب المؤيد دون تحفظ، والمنتظر للمعجزة".

بعد كلّ هذه العتمة وهذا السواد، بعد كلّ هذه المآسي، وبعد كلّ هذه الرايات الغريبة التي غطّت على رايتنا الوطنيّة، نحتاج إلى معجزة كي نوقف هذا النزيف الرهيب وهذا الدمار العميم، نحتاج لأكثر من معجزة من أجل وقف المعاناة ووقف التمزّق الحاصل في سوريا وفي مجتمعها، وبالتأكيد لن تكون هذه المعجزة بيد فرد مهما علا شأنه ولا بيد حزب أو جماعة أو مجموعة مهما كانت خصائصها وصفاتها وعقيدتها، بل هي بيد السوريّين الوطنيّين الذين لم يظهروا من تحت الرماد بعد، لكنّهم قادمون.