icon
التغطية الحية

بسطات دمشق.. ورقة توت الفقراء بيد المخابرات والشبيحة

2019.02.24 | 15:02 دمشق

بسطات على سور كلية الحقوق في حي البرامكة بدمشق(تلفزيون سوريا)
نور سعيد - دمشق - تلفزيون سوريا
+A
حجم الخط
-A

ألوان باهتة ووجوه كالحة متعبة تحيط بك حين تتجول في شوارع دمشق، الجو يعبق بدخان المركبات ورائحة بردى المليء بالنفايات والصرف الصحّي، أصوات أبواق السيّارات تندمج مع صراخ باعة البسطات التي غزت الأرصفة والشوارع، وكأنها سيمفونية خاصة بالفقراء والمتعبين.

في أكثر المناطق مركزيّةً وازدحاماً كالبرامكة وجسر الرئيس والحلبوني وشارع النصر والقصر العدلي وشارع الثورة والمرجة، لن تطالعك على تلك البسطات الخضار والفواكه الموسميّة أو عربات الذرة والفول كما هي العادة؛ بل تصطف الأحذية بمختلف أشكالها والحقائب والثياب والقطنيّات والأدوات الكهربائيّة والمواد والمنظّفات والساعات والإكسسوارات وغيرها من السلع التي لا تخطر على البال.

على طول الرصيف من بوّابة كليّة الحقوق وحتّى جسر الرئيس، ومن مشفى التوليد مروراً بشؤون الطلاب المركزية حتّى بوّابة جامعة دمشق، لا تترك البسطات للمشاة سوى مترٍ أو أقل من أصل أربعة أمتار مخصّصة لهم، ممّا يزيد من الازدحام وصعوبة السير في تلك المناطق المزدحمة أساساً، فضلاً عن إغراق سور الجامعة الأقدم في سوريا بالسلع التي لا يتناسب وجودها مع المكان وأهميّته ورمزيّته، يصف أحد المارّة الوضع لموقع تلفزيون سوريا "ماعم نعرف وين نمشي، بكل قرنة في بسطة، باكلي عشرين نعرة ودفشة حتى أحسن قطّع الشارع."

قد يكون الموضوع صغيراً ويمكن تجاوزه لو كانت هذه البسطات مصدر رزق الفقراء حقّاً كما يُشاع، ولكن إذا بحثنا قليلاً نجد أنّ البسطات كانت موجودة قبل 2011 على نطاقٍ ضيقٍ ومنظّمٍ وخاضعٍ نوعاً ما لقانون المحافظة إضافة لتحكّم بعض الجهات الأمنية.

في عام 2011 أخذت أعداد البسطات تتزايد بشكلٍ ملحوظ في الشوارع المفصليّة للمدينة وخاصّة عند تجمّع الكليات في البرامكة وذلك تمويها للعناصر الأمنية

أما في عام 2011 أخذت أعداد البسطات تتزايد بشكلٍ ملحوظ في الشوارع المفصليّة للمدينة وخاصّة عند تجمّع الكليات في البرامكة وذلك تمويها للعناصر الأمنية التي تراقب الطلبة والناس، ومن أجل القمع السريع لأي تحرّك قد يحاولون القيام به، فمن يمر بشكلٍ مستمرٍ من منطقة الحلبوني يلحظ وجود شابٍ ثلاثيني يقف دوماً أمام باب مستشفى الأمراض الجلدية، يستند إلى دراجته مراقباً المارّة وصائحاً بلهجته الريفية "تحويل رصيد.. تحويل رصيد"، ولم يتغير موقعه ولو شبراً واحداُ منذ 2011 وربما قبل ذلك وحتّى هذا اليوم، وكأنّه موظّف معيّنٌ في تلك النقطة.

ومع تغوّل الأفرع الأمنيّة أكثر وأكثر وتراجع سلطة محافظة دمشق أمامها، أخذت هذه البسطات تتحوّل إلى مشروع استثمار لتجار المافيات التي لم تترك باباً للنّهب إلّا وطرقته، فكميّة البضائع التي تغرق البسطات تحتاج لرأس مالٍ كبيرٍ لا يستطيع الإنسان العادي الذي يقف خلف البسطة تأمنيه، فجميع باعة البسطات موظّفون بأجرٍ يوميٍّ، يقول أحدهم لموقع تلفزيون سوريا "البسطة مو إلي، المعلم هو بجيب البضاعة وأنا ببيعها براتب يومي 2000 ليرة".

ويقول شابٌ عشرينيٌّ وهو يرتب بضاعته مساء يوم "الفالنتاين" على بسطة في ساحة باب توما من جهة شارع القصّاع "اليوم جابولي دباديب حمر، وباخد على كل دبدوب ببيعو 100 ليرة."

وعند تزايد التذمّر والشكاوي على البسطات، تعلن محافظة دمشق عن حملةٍ لإزالة البسطات وإشغالات الشوارع، والتي لا تطال سوى الفقير الحقيقي الذي يفترش بقعةً صغيرةً من الرصيف واضعاً أمامه علبة تحتوي بعض قطع البسكويت أو الأقلام، أمّا البسطات الكبيرة التي تحتل مساحات شاسعة فلا تطالها الحملة، وفي أحسن الأحوال تُزالُ ليومٍ واحدٍ وتصادر بضاعتها ويُسجن البائع، لتعاد البضاعة المصادرة في اليوم التالي بعد تدخّل "مستثمر" البسطة والذي قد يتدخّل لإخراج البائع من السجن أو يتركه ويوظّف غيره.

وعند السؤال عن تراخيص البسطات يأتي الجواب من المحافظة "بأنّها لا تعطي أبداً رخصة لبسطة، ولكنّها تعطي ذوي القتلى وجرحى قوات النظام ممّن تجاوزت نسبة العجز لديهم 80% رخصاً لأكشاك، ولكنّ أصحاب الأكشاك يقومون بتأجير جوارهم لبسطات ممّا يخلق مشكلة البسطات."

وإذا ما أردت أن تبحث عن بسطةٍ تشكّل حقّاً مصدر رزقٍ لفقيرٍ فعليك بالشوارع الفرعيّة والنائية، حيث يعرضون بضاعتهم على قطعة قماش صغيرة في ركنٍ منزوٍ كي يتمكّنوا من حملها بسرعة والهرب في حال قدوم الشرطة.

إذا ما أردت أن تبحث عن بسطةٍ تشكّل حقّاً مصدر رزقٍ لفقيرٍ فعليك بالشوارع الفرعيّة والنائية، حيث يعرضون بضاعتهم على قطعة قماش صغيرة في ركنٍ منزوٍ

ففي أحد الشوارع غير الرئيسية في منطقة الشعلان يطالعك رجلٌ ستينيٌّ يجلس على حافّة مدخل أحد الأبنية ويضع أمامه كيساً فيه جوارب يروي لنا شيئا من قصته؛ "كان عندي معمل جرابات بحلب، لما قامت القيامة نزحنا عالشام وحملنا معنا شو منقدر من بضاعة المستودع، انسرق المعمل وماضل شي، ماكانوا يعطوني رخصة بسطة هون وولاد الحرام يلي ببلغوا عني كتار، بس في ولاد حلال بهالبناية بيتركوا البوابة مفتوحة مشان فوت اتخبى لما تجي الشرطة."

هكذا هو الحال في دمشق فكلّ شيء في هذا البلد يخضع لسلطة الأمن المطلقة، حتّى البسطات التي تشكّل عادةً وسيلة عيشٍ للفقراء في سائر المجتمعات تحوّلت هنا إلى مجال استثمارٍ للمافيا التي تريد امتصاص مقدّرات هذا الشعب ودمه حتّى القطرة الأخيرة، "فمن لاظهر له يحميه لايستطيع إقامة بسطة" بحسب تعبير أحد العاملين على البسطات.

ومن البدع الجديدة أيضاً في البرامكة سيارة شحن صغيرة مُثقلة بالسلع المختلفة تقف أمام بوّابة الحقوق ويصرخ بائعها بكلّ قوّته "بميّة بميّة كل شي عنا بمية" ليتجمّع الناس حوله وكأنّهم في مهرجان.

بسطة حقائب وأحذية قرب كلية الحقوق في حي البرامكة بدمشق(تلفزيون سوريا)                                                 

 

وتشهد البسطات إقبال الناس عليها بكثافةٍ بسبب تردّي الوضع الاقتصادي بشكلٍ عام، بسبب انخفاض أسعار بضائعها مقارنة مع المحلّات وذلك لرداءة تصنيعها وانخفاض جودتها، ممّا يتناسب نوعاً ما مع الحال المتدنّي الذي صار إليه دخل المواطن السوري.

تقول هيا طالبة في جامعة دمشق "كل مكياجي وإكسسواري وجزاديني عن البسطة لأنها أرخص بكتير من المحلات."

وأمّا عماد الموظّف في إحدى الدوائر الحكومية في منطقة البرامكة فيقول"الراتب ما عاد يكفينا أكل وشرب، ومابقدر جيب غراض البيت غير عن البسطات، كاسات، صحون، بيجامات...، بعرف إنو نوعيتا مو كويسة وبتخرب بسرعة بس شو بدي أعمل ما بقدر اشتري من المحلات، بدي مشي حالي."

لعلّ ظاهرة البسطات التي برزت بشكلٍ ملفتٍ في السنوات الأخيرة تلخّص ما وصل إليه الوضع الاقتصادي والمعيشي للإنسان السوري، فمن جهةٍ نرى المافيات التي تبتلع كلّ شيء ولا تترك للفقير حتّى البسطة ليسترزق منها ومن جهةٍ ثانيةٍ نرى إقبال الناس على بضاعة البسطات رغم تردّيها وكأنّهم يتمسكون بورقة التوت الأخيرة التي تستر عريهم مع  تدني وضعهم المعيشي بشكلٍ استثنائي في التاريخ السوري، ومن جهةٍ ثالثةٍ نرى أنّ يد المحافظة لا تطال إلّا الفقراء البسطاء أمأ الأقوياء فهم دوماً فوق القانون ويستطيعون تملّك الأرصفة والشوارع إن أرادوا دون أن يردعهم رادع.

 

 

كلمات مفتاحية