بدايات تحرك جيوبوليتيكي عربي!

2023.03.30 | 06:30 دمشق

بدايات تحرك جيوبوليتيكي عربي!
+A
حجم الخط
-A

شهد العالم في عقده الأخير عودة بروز الجيوبوليتيك الدولي، وتحكمه بمسارات التحالفات الدولية وتغيير محتوياتها، هذا مع اشتداد الصراع الدولي في الهيمنة على محاوره المتعددة مائيًا وبحريًا وعسكريًا. وإذ يبرز في هذا السياق الجيوبوليتيك الروسي الأشد خطرًا ووضوحًا على السلام العالمي لليوم، خاصة في تمحوره في قلب أوروبا عبر أوكرانيا. لكن ثمة أطر جيوبوليتيكية مرقوبة التحرك في الوقت ذاته كالتحرك الإيراني الواضح في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية في العراق وسوريا واليمن. ومع أنه دون مستوى الجيوبوليتيك الروسي لكن له من الآثار الجسيمة والكارثية على المنطقة، فهل يقود هذا لتشكيل مقابل عربي له؟ وهل تمتلك الدول العربية مقومات العمل الجيوبوليتيكي وأسسه النظرية والتطبيقية؟ وهل يعتبر هذا التحرك العربي قابلاً لأن يكون محوريًا أو طرفيًا في المعادلة العالمية اليوم؟

عدة أسئلة وإجاباتها لليوم غامضة، خاصة وأن تحركات العمق العربي لليوم تخضع لردة الفعل أكثر منها للمبادرة والتحرك الأولي. كما أن معادلات الجيوبوليتيك الدولية تحتكم لقواعد عمل تطبيقية يمكنها التمييز بين التحالف الطويل الأمد، وبين سياسة الإرضاء والتجنب أو ما سمّاه دوغين الرّشوة الجيوبوليتيكية، وبين الزوايا الهشة (الأماد الصغرى) القابلة للقضم من قبل الآماد الكبرى بحسب مصطلحات دوغين ذاتها. فأيّ المحاور يمكن أن تنطبق على التحرك العربي في الآونة الأخيرة؟ وهل هي بصدد تشكيل محور جيوبوليتيكي قابل لأخذ زمام المبادرة في المنطقة؟ أم مجرد رد فعل على مجريات الحدث العالمي وتعقد مشكلاته سواء الإقليمية المتأزمة في العراق واليمن وسوريا، ودوليًا في أوروبا؟ خاصة مع اتضاح بوادر أزمة عالمية اقتصادية متعددة المستويات ماليًا وغذائيًا وعلى مستوى الطاقة، وقابلة للتحول لحرب عسكرية واسعة!

في الأعوام المنصرمة، شهدت المنطقة العربية عدة متغيرات في مستويات تفاعلها مع الأحداث الجارية على الساحة المحلية في الشرق الأوسط

من حيث المبدأ، من المستغرب الحديث عن جيوبوليتيك عربي، تفتقد مراكزه البحثية وصناع قراره لنظرياته التطبيقية والعلمية. كما أن المنطقة لليوم تعرف بالساحة العربية المنفعلة بالأحداث، والتي تُنفذ على ساحتها العديد من المخططات الدولية، منها ما كان موصوفًا بأنه فعل جيوبوليتيكي مباشر كامل المعالم. كما حدث في غزو العراق أميركيًا وبتحالف دولي واسع عام 2003 دون الحديث عن سياسات جيوبوليتيكية حينها، أو بعودة روسيا للفعل الجيوبوليتيكي المباشر والمحدث في سوريا عام 2015 وبدء الحديث الدولي عن عودة الجيوبوليتيك للساحة العالمية؛ مقابل الحديث عن صفقات سياسية دونها، كانت تعتبر نماذج علاقات دولية تدرس من بوابة السياسات الخارجية وتقاطع المصالح وحسب.

في الأعوام المنصرمة، شهدت المنطقة العربية عدة متغيرات في مستويات تفاعلها مع الأحداث الجارية على الساحة المحلية في الشرق الأوسط، تلك التي واكبت ثورات الربيع العربي وتحول مناطق عربية واسعة لساحة حرب متعددة الأطراف، بدأت توصف بدوائر فعل جيوبوليتيكي تتغير معه قواعد التحالف العسكري والأهداف الراهنة والاستراتيجية وما تؤول إليه من نتائج، كما حدث ويحدث في ليبيا واليمن وسوريا. وتبدو المسألة أكثر وضوحًا في سوريا وذلك لاتضاح الدور الروسي العالمي فيها وتوسعه لليبيا نسبيًا، ومن ثم امتداده لأوكرانيا ومحاولته الهيمنة على البحار الدافئة والممرات البرية الواصلة اليها، وفتح بوليفار روسيا حسب تصريحات منظريها، وعودة روسيا للقطبية العالمية. فيما برز الدور الإيراني المباشر إقليميًا والمتوسع في اليمن وسوريا وقبلها العراق.

العمق العربي المتمثل بدول الخليج العربي، بادرت برد الفعل الأولي في معادلة اليمن عسكريًا من خلال إعلانها الحرب المباشرة على قوى الحوثيين الخارجة عن الشرعية اليمنية في 25/3/2015 تحت عنوان عاصفة الحزم، وذلك استجابة لطلب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي عند هجوم الحوثيين على العاصمة عدن. في حين بدت بقية التحركات العربية في المسألة السورية والليبية تحركات سياسية غير مباشرة الفعل.

العمق العربي اليوم يجد نفسه أمام نتائج خاسرة على مستويات متعددة، فبعد أعوام على استنقاع الواقع العربي، وعدم إحراز نتيجة محددة في استقراره، تتضح بوادر فقدان المبادرة والقدرة على التحرك العربي في شتى ملفات المنطقة. فاليمن لم تحرز به نتيجة لليوم، وليبيا في السياق ذاته، فيما سوريا وقبلها العراق انفتحت على ساحة متداخلة من النزاعات البينية تتحكم فيها إيران وميليشياتها بشكل أوضح من غيرها بحكم الوجود على الأرض. بينما تمسك كل من أميركيا وروسيا ملفات المنطقة بطريقة اليد العليا، تدير ملفاتها بحسب مصالحها، والأهم من هذا ترسيم وتحديد نقاط التمركز الجيوبوليتيكي ذات الأثر الفعال في المعادلة الإقليمية والشأن الدولي في آن. فروسيا تتمركز في سوريا وعلى ساحل المتوسط مباشرة، وأميركيا في نقاط متعددة أهمها نقطة الوصل العراقية السورية، هذا عدا العديد من الصفقات على مستويات الأسلحة والبترول والاقتصاد والسياسية، بينما تفقد الدول العربية أية قدرة على الفاعلية إزاء كليهما.

يبرز في الآونة الأخيرة الدور الصيني، الذي لم يتخذ لنفسه دورًا جيوبوليتكيًا واضحًا بعد في المعادلة العالمية، ويبدأ بتحريك ملفات المنطقة على قاعدة المصالح المشتركة بتخفيف حدة النزاع الإقليمي وتخفيض أدواره لمستوى العلاقات السياسية، وهو ما يبدو أنه قراءة أولية للاتفاق السعودي الإيراني والمبادرة العربية تجاه سوريا، فهل يشير ذلك لبدء حلول ما في المسألتين اليمنية والسورية من بعدها؟ وهل يخرج هذا عن مصالح أي من روسيا وأميركيا؟

الطرق الجيوبوليتيكية سيئة السمعة، وتنذر شرًا بالمنطقة والعالم، لكنها باتت مفروضة في محاور متعددة فيه، خاصة مع احتداد شدة التحالفات الدولية

تشير القاعدة الجيوبوليتيكية الروسية التطبيقية إلى أنه حين التمركز في محور دولي بعيد المدى ثمة طرق متعددة للعمل: فالفعل العسكري المباشر للمنطقة الهشة سياسيًا وعسكريًا كسوريا، وتحييد الفاعلين المحيطين بها بالصفقات السياسية والعسكرية كما حدث مع دول الخليج ومصر. لكن عينها بالنتيجة على تشكيل محور تحالفي واسع قابل للتحكم بأدواره في المعادلة العالمية. وبينما تدرك أميركيا هذه المعادلة جيدًا، حاولت في المقابل الحفاظ على مسافة قريبة من المحور الخليجي العربي، ولكن النتيجة المقروءة عربيًا اليوم خسارة عمومية للمنطقة لعدم تقدم أميركيا في المساهمة الفعلية بحل أي مشكلة عالقة فيها، ما يفقد العمق العربي توازنه العام!

الطرق الجيوبوليتيكية سيئة السمعة، وتنذر شرًا بالمنطقة والعالم، لكنها باتت مفروضة في محاور متعددة فيه، خاصة مع احتداد شدة التحالفات الدولية. لتقع المنطقة العربية بين عدة متناقضات تؤدي بالنتيجة لضرورة تحرك عربي خارج حدود ردة الفعل والأخذ بالمبادرة على مستوى التحالف والجدية في إرساء الحلول والوضوح فيها، خاصة بعد استفراد إيران في محاورها الحيوية المحيطة بالعرب، مقابل مواربة تركية بين الروس والأميركان. فهل تتشكل بوادر جيوبوليتيك عربي على أساسه؟ سؤال يفتح البوابة على تحديات جديدة من حيث القدرة والإمكانية أولاً، والمحاور المترسمة ثانياً، والأمن الإقليمي وخاصة الخليجي ثالثًا، والنتائج والأهداف رابعًا وخامسًا... ويضعنا أمام دراسات ومقالات قريبة تحاول الإجابة الأولية عليها..