انفصام بوتين والهزيمة الكبرى

2022.03.21 | 05:22 دمشق

2022-03-19t164535z_1300898505_rc2p5t9izq3i_rtrmadp_3_ukraine-crisis-greece-protests.jpg
+A
حجم الخط
-A

روسيا، تلك البقعة الشاسعة جغرافياً، والتي تحتل ثُمْنَ اليابسة على كوكبنا، حَمَلَت تقاليدَ وطنيةً راسخة لا تحتمل ولا تغفر الهزائم أو النكسات العسكرية. فما من هزيمة كبرى حلّت بها، إلا وأدت إلى اهتزاز بأصداء كونية وتغيير جذري في البلاد: حرب القرم، منتصف القرن التاسع عشر، سارعت بولادة قيصرية، غيّرت وجه روسيا؛ والحرب الروسية-اليابانية مطلع القرن العشرين، تبعها الثورة الروسية الأولى؛ والحرب العالمية الأولى، أتت بثورة البلاشفة؛ وحرب أفغانستان، أنهت الاتحاد السوفييتي؛ فهل سيحدث التغيير الجذري بعد الحرب الروسية-الأوكرانية؟!

قبل 24-2-2022، وُضع بوتين أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما أن يغزو أوكرانيا، ويخسر؛ أو يتراجع، ويفقد مصداقيته. ثَبَت أن بوتين مصاب بانفصام الرؤية والمكابرة؛ والأرجح لم يدرك فداحة الهزيمة والإهانة والإذلال القومي الذي سيصيب روسيا، إذا ماتم الغزو.  ولم يرَ أو يحتمل، بتركيبته الشخصية، أن الانكفاء أو التراجع وابتلاع المذلة وفقدان بعض المصداقية لا كلها، أفضل بكثير من نهاية محتَّمة. والآن، وبعد بعض الصحوة على حقائق فداحة ما حدث عسكرياً من هشاشة هجومه الدموي والتدميري فقط، ومن المقاومة الأوكرانية الأسطورية، والإجماع العالمي على نبذه وخنقه وتجريمه؛ على بوتين فقط أن يحدد حجم وتوقيت الهزيمة النكراء. وبقدر ما يكون الأمر أسرع، بقدر ما يقل حجم الهزيمة؛ وبقدر ما يطول الوقت، ستكون فداحة الهزيمة وضخامة الإذلال القاتل تفوق التصور.

لم يكن بوتين ليتصوّر أن أوكرانيا ستقاوم بهذا الشكل، وأن الأوكرانيين مستعدون للدفاع عن بلدهم حتى الموت. وما كان ينتظر إلا استقبالاً بالورود من بقايا الروس في أوكرانيا أو من الراغبين في الانفصال عنها. لم يكن يخطر في باله أن أوكرانيا توّاقة، وليست راغبة، فقط للابتعاد عن عالم يحكمه دكتاتور يرى نفسه الواحد الأحد. وما كان ليتصوّر أن جيشه على هذه الدرجة من الهشاشة، رغم تباهيه بالخبرة التي اكتسبها على أرض السوريين وأرواحهم. وما تصوّر أن هذا العالم سيجمع بهذه الطريقة كي يخنقه اقتصادياً وسياسياً ومعنوياً، ويلصق به لقب "مجرم حرب".

قبل 24-2-2022، وُضع بوتين أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما أن يغزو أوكرانيا، ويخسر؛ أو يتراجع، ويفقد مصداقيته. ثَبَت أن بوتين مصاب بانفصام الرؤية والمكابرة؛ والأرجح لم يدرك فداحة الهزيمة والإهانة والإذلال القومي الذي سيصيب روسيا

هذا الانفصام بين ما تصوّر وفكّر به بوتين، وبين الواقع الذي يواجهه، حال دون قدرته على اتخاذ قرار سريع إما بعدم خوض هذه الحرب، أو بالانصراف المبكر والسريع، واختراع غطاءٍ لحفظ ماء الوجه. إلا أن "التورط" قد حصل؛ وحجم الخسارة يتفاقم ويزداد تعقيدا، ويصعب تحديد مسار أو مصير الأمور. والأخطر من كل ذلك هو الإهانة والإذلال لمخلوق مهووس بالقوة، هاجسه استعادة وحدة وكرامة إمبراطورية يرى أن أوكرانيا مسقط رأسها. فهو حتى الآن بين خسارة مبكرة صغيرة الحجم ومهينة نسبياً، ولكنها محمولة ويمكن ترقيعها ولن تؤدي إلى تغيير جذري من جانب؛ وخسارة متأخرة، كبيرة ومهينة ولا يمكن ترقيعها وستؤدي إلى تغيير جذري من جانب آخر.

رغم أن دلائل الهزيمة الكبرى أكثر من واضحة إلا أن توقيت "الخسارة الكبرى" غير واضح. وفي الدلائل عليها:

-عدم إنجازه المهمة بالسرعة التي صرح بها؛ فالأمر في أوكرانيا مختلف عنه في سوريا؛ ففي الأخيرة قال عام 2015 إنه سينجز مهمته خلال ثلاثة أشهر، ولا يزال هناك؛ ولكن في أوكرانيا من بدايتها يخسر جنوداً بالآلاف.

-روسيا لا تحتمل رؤية الكثير من الأكفان. وتأثير مقتل آلاف جنوده يدمر الروح المعنوية والقتالية لجيشه الذي يقاتل بلا هدف واضح.

-رغم أن فشل روسيا العسكري، وانكشافها بهذا الشكل بدا مستحيلا، إلا أن العالم يراه بأم عينه.

-الضحايا من المدنيين بالآلاف في حرب المدن والشوارع. والواقع يقول إنه يحتاج جيشاً بعدد سكان المناطق التي يهاجمها لتحقيق سيطرة مستدامة.

-صفة "مجرم حرب" أضحت تلازم الرجل؛ وفي الأذهان صورة هتلر.

-الاختناق الاقتصادي والمعنوي أسرع مما كان مخططاً له.

أخيراً وبخصوص مفاعيل سقطة بوتين الأوكرانية على القضية السورية، فالأمر يتعلق باختيار بوتين لهزيمة صغيرة أو كبيرة. ولكن بداية لا بد أن ينسى بوتين مسألة الحسم السريع أو الانتصار المبكر، والتي كانت ستقع ثقيلة وموجعة على القضية السورية، بحكم تفاقم منسوب القوة الروسية حضوراً وبطشاً وضياعاً نهائياً للحق السوري؛ أما هزيمةُ روسيا مبكرةً وخفيفةً كانت، أم متأخرةً وثقيلةً؛ فلابد أن يكون تأثيرها إيجابياً على القضية السورية. هاهي قوة بوتين عسكرياً واقتصادياً وسياسياً يتم استنزافها بشكل غير مسبوق، وبالتالي الحضور الروسي السياسي والعسكري في القضية السورية سيكون شبه معدوم، وسيحدث اختلال واضح في ميزان القوى المتدخلة في الشأن السوري.      

أميركا حتماً ستتفرعن قوتها، وكذلك إسرائيل وتركيا وإيران. ورغم أن إيران ستبدو بحال أفضل بسبب تخفيف حدة التنافس بينها وبين روسيا على كل شيء هناك، ولأنها ستعتقد أن هذه فرصتها لسد الفراغ الروسي، إلا أن غياب تلك الاعتمادية المتبادلة الضرورية بينهما أرضاً وجواً ستصبح من الماضي؛ وإسرائيل أيضاً ستكون بلا ظوابط، وخاصة إن تم توقيع الاتفاق النووي. تركيا من جانبها ستكون المستفيد الأكبر بحكم ابتعادها نسبياً عن روسيا واستعادتها للودّ الأميركي والأوروبي والناتوي. وهكذا سيكون الكل ضد الكل، والتوتر لن يكون قليلا. وهنا تأتي فرصة السوريين الذهبية لاستعادة بلدهم وحريتهم؛ فنظام الاستبداد ليس أكثر من ورقة استخدام مؤقت بلا قيمة أو سيادة تغري بوتين ليرسلها إلى الإمارات نكاية نفطية بأميركا مستغلاً فتور العلاقة الخليجية الأميركية. السوريون أقرب لنيل حقوقهم. ولا أعتقد أن سورياً حراً يريد لبوتين "هزيمة صغيرة" في أوكرانيا. ولتحقيق ذلك لابد للسوريين وثورتهم ومعارضتهم من مقاربة مختلفة تجاه قضيتهم.