"انتهت الحرب" فماذا نحن فاعلون؟

2022.02.10 | 05:34 دمشق

173141-779750587.jpg
+A
حجم الخط
-A

لعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان أول من صرّح بأن الحرب في سوريا انتهت. كان ذلك في تشرين أول/أكتوبر عام 2019 خلال مشاركته في أعمال الجلسة العامة لمنتدى "فالداي الدولي للحوار". قال حينذاك: "الأعمال القتالية واسعة النطاق في سوريا انتهت فعلاً، وفي كل الأحوال لا يمكن تحقيق حل نهائي من خلال العمليات العسكرية، أياً كانت نتائجها". يومها، لم يأخذ أحد من السوريين كلام بوتين على محمل الجد أو الصدق، فروسيا شريك أساسي لنظام الأسد في عملية القتل الجماعي التي يتعرض لها الشعب السوري، خاصة بعد تدخلها العسكري المباشر خريف عام 2015.

دخلت القضية السورية مرحلة التجميد السياسي منذ سيطرة قوات الأسد والحلفاء على أوتوستراد دمشق حلب بالكامل، ودخول جيشه معرة النعمان وخان شيخون وسراقب وقسماً من جبل الزاوية وريف حلب الغربي. تجميدٌ بدا للمتابع أنه بدأ يتكسّر في الشهور الأخيرة من العام الفائت وبداية هذا العام، دون أن نلحظه كسوريين. تتواتر في الشهور القليلة الماضية، عبر نشرات الفضائيات والصحف، أخبار عن تحركاتٍ دولية وصراعات محاور، وقرارات (حاسمة) تمسُّ جميعها القضية السورية، ومصير سوريا الوطن والدولة. الغرببُ في الأمر أن المعنيين بالأمر وأقصدُ السوريين، كل السوريين، لا يعتبرون تلك الحركة ضمن دائرة اهتماماتهم، لا على صعيد الرأي العام الشعبي، ولا حتى على صعيد النخب في الداخل والخارج.

في السابع عشر من كانون الثاني/يناير هذا العام عبّر فيصل المقداد وزير خارجية نظام الأسد (من موقع المتعالي طبعاً) بوضوح عن الفشل في تعويم نظامه عبر إعادته للجامعة العربية. صرّح الرجل: "عودة سوريا إلى الجامعة العربية ليست في مركز اهتماماتنا". وبذلك يكون قد أعلن رسمياً، رفض نظامه الاستجابة لمطالب المطبعين العرب ووسطائهم. مطالب كشف اللثام عنها، أو عن بعضها، الخبير السعودي اللواء أحمد الشهري خلال برنامج سياسي في قناة "روسيا اليوم" بتاريخ 30-1-2022. وهي بحسب اللواء الشهري: إنهاء حالة تمدد النفوذ الإيراني في سوريا، إجراء إصلاحات سياسية وعودة المهجرين.

ليس هناك ما يوضح موقف السعودية الرسمي من نظام الأسد أبلغ من الكلمة التي ألقاها مندوبها خلال مشاركته باجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة

الإمارات، مصر، الجزائر وعُمان، أهم الدول التي سعت إلى تعويم النظام وإعادة الحياة له وإنهاء عزلته. كان ذلك واضحاً من خلال عدة تصريحات وتحركات لمسؤولي هذه الدول، أبرزها تصريح الرئيس الجزائري عبد العزيز تبون الذي أكد ضرورة حضور سوريا للجامعة العربية للمّ الشمل العربي، متغافلاً عن ضرورة لم شمل السوريين أنفسهم قبل لم شمل دولة الأسد للجامعة. ومن تلك التحركات الزيارات المتكررة لوزير خارجية عُمان بدر بن حمد البوسعيدي لدمشق. وكانت سبقتها بفترة وجيزة زيارة وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد آل نهيان للعاصمة السورية، ولقائه برأس النظام. ترى الدول الأربع أن مساعيها قد تكون الحل الوحيد في سبيل إخراج إيران وميليشياتها ومشروعها من سوريا عبر الاحتضان العربي. في حين لا تزال دول عربية ترفض هذا الطريق وبشدّة. على رأس تلك الدول السعودية، التي ترى أن مثل تلك المساعي ستعني وصولا إيرانيا إلى طاولة الجامعة العربية.

ليس هناك ما يوضح موقف السعودية الرسمي من نظام الأسد أبلغ من الكلمة التي ألقاها مندوبها خلال مشاركته باجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16-12-2021، واختتمها بعبارة تتجاوز كل هوامش الدبلوماسية: "ما النصرُ الذي حققوه؟ إذا وقف زعيمهم على هرم من الجثث".

قطر هي أيضاً أحد أبرز اللاعبين العرب في مسألة رفض تعويم نظام الأسد. فضلا عن جمعها معظم أطياف المعارضة السورية في الدوحة قبل أيام، فإن النشاط الدبلوماسي القطري يكادُ يكون الأقوى إقليمياً منذ بداية هذا العام، فوزير خارجية قطر"محمد بن عبد الرحمن آل ثاني" زار طهران يوم 27-1-2022 والتقى بوزير خارجية إيران عبد اللهيان. تؤكد الكثير من التصريحات والتسريبات أن ملف سوريا كان حاضراً في حوار الوزيرين، خصوصاً لجهة رفض قطر عودة الأسد للجامعة العربية، بينما تعتبر إيران أن عودته ستكون نصراً لها. في اليوم التالي تماماً، طار ابن عبد الرحمن من طهران قاصداً واشنطن والتقى بالعديد من المسؤولين الأميركيين. ليصرح من هناك: "لا ينبغي مكافأة الأسد على هجماته المستمرة على شعبه". لا يخفى على أي متابع أن تصريحات ابن ثاني جاءت متناغمةً مع الموقف الأميركي، عندما أكد منسق شؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي بريت ماكغورك أن بلاده "لن تطبع مع النظام السوري لا سرًاً ولا علناً". جاء ذلك خلال حضوره ندوةً عبر الإنترنت لمؤسسة "كارنيغي".

بعد ثلاثة أيام فقط من تصريح ماكغورك جاء تأكيد الأميركيين لموقفهم من نظام الأسد، وبما يتجاوز حدود رفض التطبيع معه إلى وجوب محاسبته. المتحدث باسم الخارجية "نيد برايس" أعلن في نهاية كانون ثاني/ يناير الماضي: "الوقت الآن ليس للتطبيع مع النظام السوري، ويبقى الوقت لمحاسبته على أعماله الوحشية". على ذات النغم والسياق جاءت تصريحات مسؤولين قطريين، عقب زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لواشنطن ولقائه بالرئيس الأميريكي جو بايدن قبل أيام. هل يوحي ذلك بأن ملف سوريا عاد نسبياً إلى الدوحة؟ من المبكر تأكيد الأمر. شبكة بلومبرغ Bloomberg ذكرت أن مسؤولين في الإدارة الأميركية يتحدثون مع نظرائهم في قطر بشأن احتمال إمداد أوروبا بالغاز القطري السائل، إذا ما أدى الغزو الروسي المحتمل للأراضي الأوكرانية إلى نقص في الإمدادات. تسهيل وصول الغاز القطري إلى أوربا حلمٌ قطري بقدر ما هو كابوس روسي. ربما كان هذا الملف واحداً من العوامل التي دفعت روسيا للتدخل العسكري المباشر في سوريا. حيث اعتبر الروس سقوط الأسد الحليف قد يكون بوابة لتقليل أهمية الغاز الروسي كسلاح اقتصادي استراتيجي، في المجال الأوروبي على نحو خاص.

بالعودة إلى إعلان انتهاء العمليات العسكرية في سوريا. بذات صياغة بوتين السابقة تقريباً، جاء إعلان "غير بيدرسون" المبعوث الأممي إلى سوريا: "أبلغتني جميع الأطراف السياسية أن العمليات العسكرية في سوريا قد انتهت، وأنه لا وجود لطرف سيتصدر الخاتمة والنصر، وقد تبلّغتُ من موسكو وواشنطن استعدادهما للانخراط في مقاربة خطوة مقابل خطوة". هو الموقفُ ذاته الذي كان بيدرسون أعلن أنه تلقاهُ من وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل بتاربخ 24-1-2022. 

إذاً هل ماتت فكرة تعويم الأسد؟ نعم (مؤقتاً، على الأقل)، وقد قرأ نعوتها أحد عرابيها الأشداء، الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط. كان ذلك في ختام المؤتمر التشاوري لوزراء الخارجية العرب الذي انعقد في العاصمة الكويتية يوم الأحد 30-1-2022 "الظروف لم تتهيأ لعودة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية"، هذا الإعلان جاء بعد تصريح ماكغورك بثلاثة أيام، وبعد تصريح ابن عبد الرحمن آل ثاني بيومين، وقبل تصريح نيد برايس بساعات.

في كانون أول/يناير العام الماضي 2021 نقل بيدرسون إلى وزير خارجية الأسد "قرب نضج مقاربته، وبموافقة مسبقة من قبل الروس والأميركيين عليها". سنلاحظ هنا الغياب التام لذكر أي طرف خارجي آخر، وبطبيعة الحال لا ذكر للمعارضة والقوى العسكرية بشقيها في شرق وغرب الشمال السوري. لا "قسد" ولا "الجيش الوطني" يشكلان جزءاً من مقاربة المبعوث الأممي. طبعاً ولا حتى الأسد. كان هذا قبل واقعة سجن "غويران"، وقبل مقتل زعيم "داعش" على بعد مئات الأمتار من حواجز الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام اللذين لم يحركا ساكناً، واكتفيا بمراقبة الإنزال الأميركي كما لو أنه لقوات صديقة. وليس من المرجح أن يكون للحدثين تأثير في زيادة ثقل أي من الجانبين، بما يكفي لجعل بيدرسون أو غيره يلتفت إلى الغرب أو إلى الشرق. فمن المستبعد أن حدث غويران وقتل زعيم داعش تحت أنظار المسيطرين على الأرض سيشكلان "خطوة" في خطة بيدرسون "خطوة مقابل خطوة".

كلُّ تلك التحركات والتصريحات جرت خلال شهرين تقريباً، لكن أي متابع للشارع السوري ومواقع التواصل الخاصة بالسوريين سيصابُ بالحيرة، فهذه التحركات قد تقرر مصير سوريا القريب والبعيد، وربما ترسم شكل المستقبل الذي ينتظر أطفال السوريين. مع ذلك فإن جميع السوريين غير مبالين ولا يناقشون أياً مما ورد، لا  خلال جلساتهم، ولا حتى عبر منشوراتهم وتغريداتهم.

الأمور اليومية والمعيشية ومواجهة الموت هي ما يشغل المواطن السوري اليوم

بغضّ النظر إن كانت تلك التحركات ستفضي إلى نتائج، أم أنها ستكون كغيرها من التحركات التي أمل السوريون بنتائجها في العديد من محطات السنوات السابقة، ثم خاب أملهم، فإن الأمور اليومية والمعيشية ومواجهة الموت هي ما يشغل المواطن السوري اليوم. في إدلب إضراب الكرامة بدأ في مدينة جسر الشغور وهناك ملامح تشير إلى توسعه نحو مناطق أخرى، إضرابٌ يندد بسوء الواقع التعليمي في مدارس المحافظة. في الحسكة تعالج قسد جراحها بعد حدث "سجن غويران". في السويداء تحركات شعبية تطالب بتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين، وربما بإدارة ذاتية للمحافظة. مدينة الباب لم تنتهِ بعد من لملمة جراح الأسبوع الماضي حين تعرض المدنيون في سوقها لقصف صاروخي من قبل أحد الإخوة الأعداء. أما في مناطق سيطرة الأسد، الذي يعلن انتصاره كل صباح، فيخوض الناس معاركهم اليومية لتأمين حتى رغيف الخبز، حيث تغيب كل مقومات العيش. تلك هي هموم السوريين اليوم، أما ما يسمى بالحراك الدولي بشأن سوريا فهو أمر لا يندرج في سلم أولوياتهم. فلا ثقة بأية تحركات ولا بأية مقترحات للحلول، ولا ثقة حتى بأي طرف. أحد عشر عاماً من الانتظار تحت الموت كانت كافية لقتل أي أمل بأي حل. حلٌ لو أتى يوماً، فهو من تفصيل الآخرين، فلا طرف من السوريين بات من الفاعلين.