انتفاضة الجنوب: الفرصة والمخاطر

2023.09.05 | 06:29 دمشق

انتفاضة الجنوب: الفرصة والمخاطر
+A
حجم الخط
-A

تشير الاحتجاجات المستمرة في السويداء التي اندلعت مؤخراً، على إثر ارتفاع أسعار الوقود كسبب مباشر، وقد اتخذت طابعاً سياسياً واضحاً هدفه التغيير السياسي في سوريا، إلى ولادة فرصة جديدة للسوريين للتحرك من جديد نحو تحقيق الأهداف التي طرحتها ثورة 2011، ولم تتمكن من تحقيقها نتيجة أسباب عديدة. وإضافة إلى أن هذه الاحتجاجات حقّقت خرقاً واضحاً في حالة الاستعصاء والجمود التي تلفّ القضية السورية، فإنها تشكل رافعة للسوريين تنتشلهم من حالة القنوط التي وصلوا إليها، رغم قسوة الظروف الاقتصادية وجمود العملية السياسية، إن لم نقل استبعادها قصداً، لكن هذه الاحتجاجات ما لم تساندها المدن الأخرى، وخاصة الكبرى (دمشق وحلب)، ستتعرض لمخاطر لا يريدها ولا يتمناها السوريون.

بعد مرور اثني عشر عاماً على انطلاق الثورة، وخمسة أعوام على توقف العمليات العسكرية بفعل توافقات إقليمية ودولية، الملاحظ أن الوضع الاقتصادي والمعيشي للسوريين في مناطق سيطرة النظام لم يتحسن، بل إنه يزداد سوءاً بشكل يومي، لدرجة صار أغلبية السوريين (90) في المئة يعيشون بحالة يرثى لها، وتدهورت قيمة العملة بطريقة مخيفة، وبالطبع يتذرع النظام بالعقوبات والحصار ومؤخراً الزلزال، بينما السبب الحقيقي يكمن في عمليات النهب المنظم الذي تقوم به العائلة الأسدية لمقدرات السوريين وحتى المساعدات المقدمة لهم من جهة، ومن جهة أخرى، بيعه ورهنه معظم الأصول السورية (موانئ، مطارات، ثروات معدنية وغيرها) لداعميه روسيا وإيران. هذه الأمور مجتمعة جعلت الدخل الشهري الذي يتلقاه السوري لا يكفيه سوى يومين أو ثلاثة.

رغم القرار الدولي (2254) الذي أصدره مجلس الأمن عام 2015، والذي يشكل أساساً معقولاً للحل في سورية والبدء في عملية انتقال سياسي حقيقي يخلص البلاد من الاستبداد ويضعها على سكة الانتقال الديمقراطي، فإن تعنت النظام الأسدي وداعميه روسيا وإيران من ناحية، ومن ناحية أخرى، تراخي الموقف الدولي ولجوئه إلى حلول غير سياسية وتحويله قضية السوريين إلى حكاية لاجئين ومعابر لتقديم المساعدات، أدخل البلاد في حالة من الاستعصاء صار الخروج منها يبدو مستحيلاً، كما دفع بعض القادة العرب ذوي البنية الاستبدادية إلى التفكير بطرق رغبوية وطفولية، بقصد تأهيل النظام وإعادة دمجه بغاية إبعاده عن إيران، وقد فشلت هذه السياسة خلال وقت قصير، فالنظام الأسدي كما هو، ويعزز علاقاته مع إيران، غير مكترث بـ "العلاقات الشكلية" العربية.

تفاعل الشارع السوري مع انتفاضة السويداء، لكونه رأى فيها بداية وحافزاً للخلاص من الاستبداد الأسدي، وكانت درعا -مهد الثورة- السباقة للتعبير عن التضامن، وكذلك تجاوبت مناطق الشمال السوري بالتظاهر دعماً لانتفاضة الجنوب

على ضوء هذه الخلفية الاقتصادية والمعيشية والسياسية، أتت انتفاضة الجنوب (السويداء) التي انطلقت رداً على قرارات اقتصادية جائرة، للتحول خلال أيام إلى انتفاضة سياسية هدفها تغيير النظام، وتطبيق القرار (2254) من خلال إخراجه من المعتقل، كما عبرت إحدى شعارات الانتفاضة، إضافة إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين. والأمر الأكثر وعياً ونضوجاً في مطالب السويداء تجلى في الرسالة التي وجهوها إلى مجلس الأمن، وفحواها تطبيق القرار الدولي المذكور، بمشاركة سورية حقيقية، بمعنى عدم اعتماد الهياكل المعارضة الحالية نتيجة ما ولدته لنفسها من سمعة سيئة خلال مسيرتها، إذ لم تكن هيئة مستقلة تمثل السوريين وتقيم التحالفات على أساس مصالحهم وقضاياهم. 

تفاعل الشارع السوري مع انتفاضة السويداء، لكونه رأى فيها بداية وحافزاً للخلاص من الاستبداد الأسدي، وكانت درعا -مهد الثورة- السباقة للتعبير عن التضامن، وكذلك تجاوبت مناطق الشمال السوري بالتظاهر دعماً لانتفاضة الجنوب، إضافة لمناطق أخرى مثل دير الزور، التي أشغلوها مؤخراً باقتتال لا يخدم قضية الثورة. وفي الوقت نفسه، وهو الأمر المهم، تزايدت حدة الانتقادات من ناشطي الساحل السوري، التي عبر عنها أحدهم متحدياً بشار الأسد ومطالباً إياه أكثر من مرة بالتنحي ومغادرة البلد بما نهب، وكاشفاً عن أمر مهم في السياسة السورية عندما قال: "الذين حموك، بدهم يشلعوك"، لكن يبقى الغائب حتى اليوم، والمخيف بنفس الوقت، الموقف المتفرج لمدينتي دمشق وحلب، بما تشكلانه من عوامل اقتصادية وثقل سياسي واجتماعي في قلب الموازين.

وبالتدقيق في بنية النظام الأسدي، نجد أن أطراف الدعم الداخلية تتمثل في قوتين: الأولى ذات بعد طائفي متمثل بكبار ضباط الأمن والجيش والمنتفعين حولهم، والثانية ذات بعد اقتصادي اجتماعي تتمثل بالبرجوازية الدمشقية والحلبية وجمهورها من سكان المدن. ومن الملاحظ اليوم، بداية التململ والانتقادات في الطرف الأول (الطائفة)، التي تشعر أن العائلة الأسدية تخلت عنها، وتدفعها نحو مصير مواجهة مع بقية السوريين، وهو أمر عبّر عنه عدد من الناشطين مؤخراً متحدين سلطة بشار الأسد، ولا ننسى ما تعرض له "حيتان المال" السابقين من عمليات مصادرة لأموالهم، وهو ما يجعل قاعدته منحصرة في الشبيحة وتجار الكبتاغون من آل الأسد والمنتفعين حولهم.

أما المخاطر التي ستطول البلد كله وليس السويداء، أو الجنوب السوري، فهي كبيرة، وأولها ما يحضره النظام الأسدي وإيران وميليشياتها الطائفية من سعي إلى تفجير داخل التركيبة السكانية للمدينة، من دون استبعاد المواجهة العسكرية كحل أخير، وثاني تلك الأخطار ما يروج له تيار الاتحاد الديمقراطي، على لسان صالح مسلم، من دعوات لإنشاء فيدرالية في الجنوب، حيث قال لصحيفة المونيتور: "كلانا يريد اللامركزية. كلانا أقليات. نحن ننظر إلى بعضنا البعض بتعاطف"، متجاهلاً صيحات الجنوب بسوريا الموحدة رافضين أي شكل من أشكال التقسيم. وثالث تلك الأخطار يأتي من المتعيشين على احتكار المظلومية السنية، الذين ينظرون بعين الشك إلى جميع التحركات المناهضة للنظام "ما لم يكونوا أصحابها"، فرغم أن السنّة تعرضوا للظلم الأشد، لكن ينبغي أن يبقوا القاطرة التي تدفع لخلاص سوريا كلها، سوريا للجميع عدا القتلة الذين يتوجب مقاضاتهم.

ينبغي أن نتوقف عن نعت انتفاضة السويداء بأنها "ثورة درزية"، ولا مجرد ثورة الجبل، ولا تتعلق فقط بالقضايا المطلبية رغم أهميتها الفائقة، إنها انتفاضة لاستعادة الحياة، ونضال من أجل تحرير سوريا والخلاص من السلطة الأسدية التي سلبت كل عوامل الحياة من السوريين، واليوم، لم تعد الانتفاضة مقتصرة على الجنوب (السويداء ودرعا)، فقد نمت لتشمل اهتمامات ودوائر أوسع في أكثر من مكان، ويشترك فيها قطاعات مختلفة ريفية ومدينية دفاعاً عن حياتهم وكرامتهم، فقد ذهبت الانتفاضة الحالية برسالتها أبعد من حيزها.  والأكثر أهمية أن الانتقادات بدأت تتردد في معقل الأسد، في اللاذقية، حيث يتزايد عدد الذين ينتقدون النظام علنًا.

ما أثارته انتفاضة الجنوب، مع تضامن كثير من السوريين معها، يكشف بقوة ضرورة التوحد حول شعاراتها المتمثلة بتطبيق بضرورة رحيل الأسد من خلال تطبيق القرار 2254، بما يشكله من نقطة انطلاق نحو انتقال سياسي حقيقي، يمهد الطريق للخلاص من الاستبداد الأسدي. وكون القرار نقطة توافق دولي، يمكن الانطلاق اعتماداً على ذلك من أجل ممارسة الضغط بمختلف الوسائل والقنوات من أجل إحياء القرار وإجبار النظام السوري على تطبيقه، وهو السبيل الوحيد لعودة اللاجئين والخلاص من أخطار الكبتاغون بما تشكله من عوامل قلق للعالم. 

لا نبالغ إذا قلنا إن هذه الانتفاضة ربّما هي من أهم الفرص، وسط هذا الاستعصاء والجمود، لإزاحة كابوس الاستبداد عن سوريا، ولتوحد السوريين تحت هدف واحد

صحيح أن لدى نظام الأسد تاريخاً طويلاً من التعامل مع المتطرفين والاغتيالات، وأنه لا يتردد في استخدام العنف، إذا اضطر، حتى ضد قاعدة دعمه التي قاتل بها، إلا أن هذا الخيار ليس سهلاً، خوفًا من حصول تصدعات داخل نواة النظام الصلبة، ناهيك عن عجزه التام عن تقديم حلول لمعاناة السوريين، ووصول التطبيع مع العرب إلى طريق مسدودة، وعجز إيران وروسيا عن تقديم المساعدة. وبناء عليه، تبدو خيارات النظام محدودة في التعامل مع الاحتجاجات المتنامية التي تتوسع يوماً بعد يوم، وأكثر ما يقلق هذا النظام ويخيفه هو بداية تشكل إجماع وطني بين السوريين على ضرورة التغيير ورحيله، وتحميله مسؤولية الدمار الذي ألحقه بالبلاد.

لا نبالغ إذا قلنا إن هذه الانتفاضة ربّما هي من أهم الفرص، وسط هذا الاستعصاء والجمود، لإزاحة كابوس الاستبداد عن سوريا، ولتوحد السوريين تحت هدف واحد، وخاصة أن المثل الأصلية لثورة 2011 لا تزال حية وتعود إلى الواجهة، وهو ما يشير إلى تجذرها في وجدان السوريين، ومن ثم فتح صفحة جديدة في تاريخ سوريا، سوريا الحرة الديمقراطية التي يحلم بها كل السوريين، وليس من مصلحة أي سوري غيور على ماضي سوريا وحريص على مستقبلها أن تضيع هذه الفرصة، لأن ضياعها يعني مزيدا من البعد عن الحلم بالحرية والخلاص، إن لم يكن تقسيم سوريا إلى كانتونات. 

لتكن هذه الانتفاضة فرصة للخلاص من الاستبداد الأسدي وبناء سوريا ديمقراطية للجميع.