الواقع الكُردي في سوريا بعد داعش

2019.05.14 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أما وإن إجرام داعش أفل، فإن الأسئلة الكامنة أكثر إلحاحاً وبحثاً عن الجواب تطفو بكثافة، وتحديداً مصير القضية الكُردية والواقع المُعاش. فلا يزال المسرح السياسي الكُردي مُنقسماً على نفسه بين الاتحاد الديمقراطي والإدارة الذاتية من جهة وهم الساعون لتنفيذ مشروعهم المعتمد بكليته على الإيديولوجية الخاصة بهم والتي يحاول الحزب فرضها وتأسيس أي كيان سياسي مقبل، عليه. يقابله المجلس الكردي الذي لا يزال يعاني من إشكالات خاصة ضمن بنيته التنظيمية والتي لم ينجح في توظيف أوراقه وأدواته الضاغطة الداخلية أو الخارجية بغية الوصول إلى صيغة تفاهم تمنحه قدرًا من تنفيذ ما يطرحه من مشروع سياسي.

ومع انهيار الدولة السورية بالمعنى الاجتماعي والسياسي في عموم الشمال السوري، قدم الاتحاد الديمقراطي نفسه كسلطة بديلة عن النظام لفرض الأمن، ولتسيير أمور المواطنين وتقديم الخدمات، ودخل في تفاهمات مع النظام السوري حول طبيعة التحكم بالثروات والموارد المالية، وليكون سداً أمام الوجود التركي ومواجهة المعارضة السورية ومنعها من التمدد للمناطق الكُردية، ولجم التحركات الكُردية غير المنسجمة مع طروحاتها. دخل في تحالفات مع روسيا، لم يلبث الحزب أن انخرط بمحاربة الإرهاب مع التحالف الدولي ومستفيداً من الدعم الأميركي وبفاتورة باهظة تجاوزت الــ/20/ألف شهيد وطرد التنظيم من الرقة، ودير الزور وفرض سلطته

الاتحاد الديمقراطي كان يحاول الاستفادة من التناقض بين مواقف وسياسات أميركا وتركيا

على تلك المناطق. وبعد أعوام على تأسيس الإدارة الذاتية، لا يزال المستجد الكُردي هو –هو لجهة خنق الحياة السياسية، أو لجهة عدم النظر للإدارة كمشروع جمعي عام يشمل جميع الكُرد، وظهور بوادر متقدمة للعصيان ورفض تواجدهم في دير الزور بسبب انعدام الخدمات ورفض تواجد الحزب في تلك المناطق، ووجود ضواغط ومحركات خارجية لم تتحدد ملاحها حتى اللحظة، ويبدو أن الإجراءات ليست سوى ترقيعات لم تأت بثمارها.

الأمر المستجد الآخر، أن الاتحاد الديمقراطي كان يحاول الاستفادة من التناقض بين مواقف وسياسات أميركا وتركيا، فالأولى سعت للقضاء على الإرهاب ومنع تمدد داعش صوب حدود إسرائيل وتقليص النفوذ الإيراني ووضع حد لتدفق اللاجئين صوب العالم الآخر، بينما حشدت تركيا مواقفها للقضاء على تواجد الاتحاد الديمقراطي الذراع السوري للعمال الكردستاني على حدودها الجنوبية.

الوضع اليوم اختلف جذرياً، فمؤشر العلاقات التركية الأميركية يشير للارتفاع الإيجابي بينهما، كما أن النظام السوري يسعى بشتى السبل للعودة إلى المناطق الكُردية ويرى في "قامشلو" ركيزة أساسية للعروبة ومشروع المقاومة والتصدي والتحشيد للعشائر العربية كجزء أساسي من تلك التطلعات.

أمام هذه اللوحة فإن خيارات الاتحاد الديمقراطي باتت محصورة أكثر من أي وقت مضى:

فإما الدخول في مفاوضات مع النظام وتسليم كامل سلاحه له، مقابل بعض المناصب وتوسيع قانون الإدارة المحلية، وهو أمر مرفوض بالكامل من قبل الاتحاد الديمقراطي، علماً أن من عمق مصلحة النظام الحفاظ على هذه القوة العسكرية لكن بعد إعادة هيكلتها لتكون بطاقة مواجهة ضد تركيا أو أي مشروع آخر، ومن الممكن تطبيقه في حال تلبية النظام السوري شروط قوات سوريا الديمقراطية.

أو الدخول في تفاهمات مع تركيا، خاصة وأن قضية نشوب حرب بينهما أمر معقد وصعب للغاية، ليس أقلها هجرة ملايين المدنيين صوب أوربا، والقواعد الأميركية الموجودة. وما رسالة السيد عبد الله أوجلان إلا توجيهٌ واضح بهذا الخصوص، وهو ما يفتح شهية الطرف الكُردي الآخر لطرح مخرجات أتفاق جديد، أو تنفيذ المخرجات السابقة.

التوافق السياسي

يُطالب المجلس الكُردي بالشراكة السياسية في الإدارة الذاتية، مشروطة بتنفيذ رؤيته عبر إشراك بشمركة روج أفا، والاتفاق على رؤية سياسية للمنطقة على أساس إقليم جغرافي سياسي باسم "إقليم كُردستان سوريا". مطالب تفتقد لأي مفاعيل أو ضواغط أو حتى ابتزاز لفرضها على الاتحاد الديمقراطي للقبول بتلك الشراكة. التعقيد في طلب وقبول الشراكة يصطدم بعوامل مُركبة جديد لم تكن موجود سابقاً: توجه المزاج الأوروبي العالم لعدم التخلي عن "قسد" وحماية الإدارة الذاتية وإلغاء فكرة هدمها أو حلها. بالمقابل لن تجد الإدارة الأميركية أي حرج في إبعاد قوات الحماية الشعبية عن الحدود التركية والإبقاء على قسد بمكوناتها العربية والتركمانية والسريانية في الخط الحدودي الفاصل بين الطرفين، وإرضاء الجانب التركي، وضماناً للإبعاد الأخير عن الحلف الروسي. مع حالة الاحتقان المستشرية في أوساط جماهير الإتحاد الديمقراطي تجاه مكونات وأعضاء ومؤيدي المجلس الكُردي.

يقُابله رفض مساعي الإدارة الذاتية و"قسد" بالتواجد ضمن لجان كتابة الدستوري السوري، وأي تضحيات دون المشاركة في التوافق على نظام الحكم وشكل الدولة، والتثبيت الدستوري، سيُعتبر بمثابة الانتحار السياسي.

تبقى نقطة الإلغاء والمحق الذي تُمارسه الإدارة الذاتية والاتحاد الديمقراطي أبرز عوامل الضغط على الإدارة الأميركية إضافة إلى الدور التركي المُعادي لهم، ومع تضخم احتمالية الانسحاب الأميركي بعد فترة غير معروفة واستقرار قواتها في قاعة عين الأسد العراقية، فإن المنطقة ستكون أمام أحد الفاعلين الأساسيين إقليم كوردستان العراق أو تركيا.

الوضع الاقتصادي.

سنوات عجاف، وفقر شديد، عناوين عريضة لواقع الكُرد في المنطقة. ولولا الواردات المالية من مُخيمات اللاجئين الكُرد في إقليم كُردستان- العراق، واحتضانهم للشباب المندفعين نحو العمل، ثم الوظائف التي وجدت وبشكل خاص لشريحة النساء فرصة لتأمين مصدر رزق ضمن الإدارة الذاتية. فإن الوضع المجتمعي الكُردي في سوريا كان يُنبئ بخطر شديد. مع ذلك فإن عدم تقاسم الواردات الاقتصادية للمنطقة بين الأطراف الرئيسية، جعل من الإدارة الذاتية متبوئة لناصية العمل الاقتصادي وتحديد سلم وكتلة الرواتب، ومع انعدام المشاريع الإنمائية أو الخطط الاقتصادية لتحسين مستوى معيشة الأفراد تستمر المنطقة في فقدانها للمشاريع التنموية الاقتصادية التي يُمكن التعويل عليها كرافد لاقتصاد المحلي الحكومي، عوضاً عن ذلك راحت هذه الإدارة تشجع على خلق وتطوير وتفعيل البرجوازية الحزبية عوضا عن الوطنية، ولم تقدم هذه البرجوازي أيَّ خدمة للمواطنين والشباب العاطلين عن العمل خاصة خريجي الجامعات السورية، والأسوأ أن جميع واردات معبر سيمالكا ونقل البضائع والتجارة ينحصر صرفها بما يخدم مشاريع السيطرة على المجتمع الكُردي عبر حصر التوظيف وتمويل المشاريع وفق مزاجية حزبية، ومع غياب الميزانية السنوية للإدارة يبقى الواقع الخدمي الأسوأ على الإطلاق، وإن بدأت بعض الخطوات التي لم تُفذ بعد إلى تاريخه.

محكمة داعش

في خطوة نحو نيل المشروعية الدولية، تسعى الإدارة الذاتية لخلق أرضية أو ظرف سياسي مناسب لتشكيل محكمة دولية، خطوة

يعيش الطرفان الكُرديان تقلبات وقلقا وجوديا ما بين النظر للداخل الكُردي والتنازل، أو تشبث الوطني الكُردي بناصية التمثيل الخارجي

تصطدم بعراقيل عميقة ليس أقلها أن هكذا قرار بحاجة إلى اجتماع مجلس الأمن، أو الأمم المتحدة، وكِلا الطرفين لم يُبدِ أيَّ أهمية بالقضية، ما يُرهق الإدارة اقتصادياً إن صدقت الأرقام المُعلنة حول عدد المعتقلين في المخيمات والسجون. بالمقابل فإن قرار إنشاء المحكمة –غير الواردة لدى المجتمع الدولي – من شأنه تفعيل الجانب السياسي للمنطقة وخاصة للإدارة الذاتية. عدا عن ذلك يشي بفشلهم على مستوى السياسات الدولية.

يعيش الطرفان الكُرديان تقلبات وقلقا وجوديا ما بين النظر للداخل الكُردي والتنازل، أو تشبث الوطني الكُردي بناصية التمثيل الخارجي، ونظرة الاتحاد الديمقراطي للداخل على إنها محظية ومحمية خاصة به وسعيه للانخراط مع قوى المعارضة السورية التي دأبت على وشمها بالإرهاب والإسلاموية على حد تعبيرهم طيلة سبع سنوات، أو الدخول في تفاهمات مع تركيا التي كانت شماعة الحرب وديمومتها، وتهمة جاهزة حتى لمن يزور أقاربه هناك.