النظام السوري والتاريخ: هم وصلاح الدين الأيوبي

2022.02.10 | 05:34 دمشق

829baee527af4630c2763ed59c6d6fa1.jpg
+A
حجم الخط
-A

من عادة الأنظمة الديكتاتورية أن تكون لها مواقف معلنة وأخرى مخفية من مختلف القضايا حتى الفكرية منها مثل التاريخ. تتناقض هذه المواقف وتتغير حسب مصلحتها، حتى أننا نرى بعض ما تدعيه من ثوابت فكرية يتحول إلى شعارات جوفاء أو دعاية مملة.

قد يكون مقبولاً أن يبقى هذا التناقض نوعاً من الدعاية، لكن الخطورة أن يعتبره المتحكمون في مصائر البلد والعاملون في الشأن الثقافي والأكاديمي ضوءاً أخضر للعمل وفق أهوائهم وخلفياتهم الإيديولوجية والطائفية. وإذا أضفنا إلى ما سبق الحالة العامة من القصور السياسي والإداري الذي عاشته البلاد وترهل المؤسسات، بالإضافة إلى تدخل الأجهزة الأمنية في كل شاردة وواردة، فسنصل إلى حالة من الازدواجية لا تظهر في السياسات المعلنة ويصعب تتبعها إلا لمن عايشها.

ففي سوريا، حيث يحكم نظامٌ باسم حزب البعث منذ 1963، كانت للتاريخ مكانةٌ مهمةٌ انطلاقاً من مبادئ الحزب القومية. ومنذ الستينات ناقش بعض من بقي من مفكرين في الحزب قبل تصحره مسألة إعادة كتابة تاريخ العرب وتحول الأمر إلى مشروع "إعادة كتابة تاريخ العرب" برعاية حافظ الأسد في السبعينات، والذي بقي مشروعاً عقيماً رغم استمراره حتى اليوم. وقد عُرف عن الأسد الاهتمام بالتاريخ وكان يطلب من قسم التاريخ بجامعة دمشق أو من أساتذة فيه دراسات عن مواضيع معينة، كما قال مرةً رئيس قسم التاريخ الراحل محمد خير فارس.

كما سوقت المناهج الدراسية، في مختلف المراحل، التاريخ وفق النظرة القومية البعثية قبل التحول إلى الهوية الوطنية في العقدين الأخيرين. ووفق تلك النظرة اُعتبر كل من سكن الوطن العربي عربياً، ومنهم السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي طالما أراد حافظ الأسد التشبه به كمحرر لفلسطين عندما كانت القضية الفلسطينية مقياساً للوطنية والبطولة عند السوريين والعرب. ومنذ صغرنا تعلمنا في المدرسة بديهية أن صلاح الدين بطل عربي حرر القدس. ولم أعرف، ككثير غيري، إلا متأخراً أنه لم يكن عربياً بل كردياً وقيل تُركياً. وعاش في زمنٍ لم يكن الأصل القومي فيه يعني الكثير.

صلاح الدين عندهم جبان خائن يستحق الاحتقار، ويمكن أن يفاجئنا هؤلاء بمعتقداتهم التاريخية هذه حيث لا نتوقع وممن لا نتوقع

إذاً صار صلاح الدين من البديهيات، وهو المشهور في الغرب والشرق بالشجاعة والمروءة. لكن الكثير من كبار رجال الأسدين من عسكريين ومدنيين لهم رأيٌ آخر، وبعضهم مختصون بالتاريخ. وهذا الرأي المختلف ينسحب على العديد من الشخصيات التاريخية البديهية في ثقافتنا. فصلاح الدين عندهم جبان خائن يستحق الاحتقار، ويمكن أن يفاجئنا هؤلاء بمعتقداتهم التاريخية هذه حيث لا نتوقع وممن لا نتوقع.

فمع موجة تحويل بيوت عتيقة في مدينة دمشق القديمة إلى مطاعم وبارات قام أحد كبار المتنفذين بتحويل بيت يطل على ضريح صلاح الدين أمام الجامع الأموي إلى مطعم. وكعادة الكثير من هذه المطاعم الغريبة عن نسيج المدينة، اجتذبت زبائن غير لائقين من نتاج فترة الانحطاط وإعلان العداء لثقافة البلاد. وطالما ضج من هؤلاء ومن تصرفاتهم سكان الأحياء القديمة حتى أكثرهم "تحرراً". ووسط صمت الجهات المعنية بحماية تراث المدينة القديمة المسجلة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي على هذا التعدي وغيره من التعديات المادية والمعنوية، قام بعض الغيارى على دمشق وعاداتها وتراثها بمحاولة إغلاق المطعم أو لجمه دون جدوى، حتى وصلت إحدى المثقفات الدمشقيات المهتمات بالمسألة إلى ضابط مخابرات كبير علّه يوقف التعدي على مقام صلاح الدين، وزارت مكتبه الرسمي عارضة شكواها التي ما إن سمع بها حتى انتفض وبدأ بشتم صلاح الدين بأقذع الألفاظ. ولم تعرف السيدة المذهولة مما سمعت ما تقول سوى تذكيره بتقدير "الرئيس الخالد حافظ الأسد" لصلاح الدين وكيف دشن له تمثالاً كبيراً نُصب أمام قلعة دمشق، وأن صورته على العملة السورية. فاستشاط الضابط وأخبرها أنه لو كان الأمر بيده لقاد دبابة وربط التمثال من رأسه وجره في شوارع دمشق!

لا يذكّر هذا الموقف إلا بما فعله الجنرال غورو عندما احتل الجيش الفرنسي دمشق عام 1920، عندما ركل برجله قبر صلاح الدين قائلاً: ها قد عدنا يا صلاح الدين. ومع أن هناك من ينفي العبارة ومن يؤكدها، لكن الثابت أنه كان من أهم أهداف فرنسا إضعاف الأغلبية المسلمة في البلاد ونزع السلطة منها، كما قال المؤرخ فيليب خوري وغيره.

ومع أن الأسد الأب، على ذمة مترجمته بثينة شعبان وصحيفة البعث، كان يتقصد لقاء وزير خارجية أميركا هنري كسينجر في السبعينات أمام لوحة تجسد معركة حطين ليرى انتصارات صلاح الدين، مما جعل الرئيس الأميركي جيمي كارتر يصفه بأنه "صلاح الدين المعاصر"؛ ولكن، في الوقت نفسه، كان أستاذ التاريخ الإسلامي الدكتور سهيل زكار يُعدّ مستشاراً للأسد رغم آرائه شديدة العداء لصلاح الدين وللأيوبيين عامة، حتى أنه اعتبرهم بلاءً أصاب الأمة.

ما يحمله هؤلاء في صدورهم، وكان في البداية خافياً على العامة، أحس به بعض المثقفين الذين استشعروا ما يحمله الحكام الجدد نحو تاريخهم وتراثهم. فنرى المؤرخ والمحقق محمد أحمد دهمان يعلق على هدم مسجد يلبغا الأثري بدمشق في الستينات والسبعينات بعبارة ذات مدلول، وكأن الحكام الجدد يحملون حقداً على تراث دمشق.

هناك عددٌ كبيرٌ من أساتذة الجامعة حاملي شهادات الدكتوراه في التاريخ يجتمعون على آراء مماثلة، ويناقشون القضايا والشخصيات التاريخية بمنطق الضابط أعلاه بتأثير الخلفية نفسها

هذا مثال للازدواجية ظهر بسبب كلام ضابط مخابرات كبير. وهناك عسكر قادة كتبوا في التاريخ أو كُتِبَ لهم. فـ"القائد"، وهي التسمية التي ينادي به الأتباع سيدهم رفعت شقيق الأسد الأب، حاصل على دكتوراه في التاريخ، وآصف شوكت صهر الأسد حاصل على الماجستير فيه أيضاً. وإن كان لا يوجد فيما كتباه أو كُتِبَ لهم ما يدل على ما ذكرناه آنفاً. وبالإضافة إلى العسكر هناك عددٌ كبيرٌ من أساتذة الجامعة حاملي شهادات الدكتوراه في التاريخ يجتمعون على آراء مماثلة، ويناقشون القضايا والشخصيات التاريخية بمنطق الضابط أعلاه بتأثير الخلفية نفسها وكأنهم لم يعرفوا الحياة الأكاديمية!

تقريباً فُرض هذا المنطق في جامعة دمشق بتأثير عاملين؛ الأول الخوف الحاضر في تفاصيل حياة السوريين، والثاني سيطرة رجال السلطة على الجامعات، وأبرزهم سهيل زكار الذي سيطر لعقود على الدراسات العليا في التاريخ الإسلامي طلاباً ومواضيع، لقربه من الأسد ولأنه مؤرخ مشهور يستطيع تقديم المعتقدات التاريخية لأهل السلطة بشكل مُقنع. حتى كثر ظهوره على بعض القنوات التلفزيونية الطائفية التي تزايدت في السنوات الأخيرة، متحدثاً على هوى العوام في مواضيع إشكالية طالما استخدمتها الميليشيات الطائفية كإحدى مبرراتها لقتل وتهجير السوريين وغيرهم.