النخبة وأزمة تبرير الاصطفاف مع الديكتاتور

2021.03.06 | 07:25 دمشق

2d935ae6-188c-49c3-a69f-e76b7afc08ea.jpeg
+A
حجم الخط
-A

منذ بدء الثورات العربية برزت أزمة الاصطفاف من قبل نخب فكرية ودينية وسياسية حزبية مع الديكتاتوريات، يمكن حصر ملامح هذه الأزمة بعدة أشكال:

أولاً: المجهود الذي بذلته النخب الدينية في تبرير قمع الشعوب ورد السلطة لولي الأمر الذي لا يجب أن يتم الخروج عنه، وقد فاجأت شخصيات دينية حول العالم الشعوب باصطفافها مع الديكتاتوريات واستماتتها في شرعنة الاعتداء المباشر والعنفي والقمعي الذي مارسته الأنظمة الديكتاتورية اتجاه الثوار ممن خرجوا احتجاجاً على تردي أوضاع الحياة في كافة النواحي في ظل تلك الديكتاتوريات.

ثانياً: المجهود الإعلامي الذي بذلته جهات إعلامية محسوبة على تلك الديكتاتوريات من أجل إشاعة حالة من الارتباك في أوساط الناس بنشر المخاوف واستدعاء أكثر الشخصيات الإعلامية وفاء للبلاط من أجل مخاطبة الناس بنظريات المؤامرة الخارجية التي تستهدف بلادهم حتى يتم ثنيهم عن أي حراك ضد الوضع القائم.

ثالثاً: المجهود التبريري الذي عكفت معظم أحزاب اليسار العربي عليه من أجل تبرير حالة الاصطفاف مع الديكتاتوريات، وتوظيف قضية فلسطين والتخويف من المصائر المرعبة في حال رحل مجموعة الحكام القمعيين في المنطقة العربية.

رابعاً: المجهود الفكري والثقافي الذي قادته شخصيات فكرية وثقافية عربية من أجل محاولة انتشال الديكتاتوريات العربية من برك الدماء التي سالت في الشوارع الثائرة، فراحت تهين ذكاء الناس وتقلب الحقائق وتستغل صلاتها مع الديكتاتوريات وكافة الموارد التي وظفتها الديكتاتوريات في خدمتها من أجل دعم مشروع فكري وثقافي وأدبي مساند للديكتاتوريات ويعمل على تبييض صورتها وواجهتها الخارجية ببعض قصائد ومؤلفات تغازل البلاط وترتمي أمام أعطياته وامتيازاته.

خامساً: المجهود الفني الذي خاضته شخصيات فنية مؤثرة من العالم العربي في سبيل مساندة الديكتاتوريات بالأغنية أو بالسيناريو أو بالمحتوى السينمائي أو غيرها من مستويات التأثير الفني من أجل دعم الشخصيات الديكتاتورية بنشر حالة من التشكيك وقلب الحقائق أيضاً بين جمهور متابعيهم الذي يمتثل أحياناً لنفوذهم المؤثر.

عكست هذه الملامح عدة أزمات تقف وراء تلك المجهودات التي تصب كلها في خانة الحفاظ على واقع القمع العنفي للأوساط الثائرة في الشوارع العربية وفي معتقلات الأنظمة الديكتاتورية.

في اللحظة التي كانت فيها الجماهير الثائرة بحاجة لغطاء فكري وديني وإعلامي وثقافي لدعم حراكهم الثوري راحت تلك النخب تصطف مع الديكتاتوريات القمعية وتنطق باسمها

أولاً: الأزمة الأخلاقية لدى النخب الدينية والثقافية والفكرية والفنية التي اصطفت لجانب الديكتاتوريات وما أعقب تلك الأزمة من حالة صدمة في الأوساط الثورية من مواقف لا أخلاقية ولا إنسانية لتلك الشخصيات، ففي اللحظة التي كانت فيها الجماهير الثائرة بحاجة لغطاء فكري وديني وإعلامي وثقافي لدعم حراكهم الثوري راحت تلك النخب تصطف مع الديكتاتوريات القمعية وتنطق باسمها بشكل أو بآخر، وتسوق المسوغات الفقهية والفكرية والسياسية من أجل القمع الدموي للحراك الثوري لدى الشعوب، مما زعزع ثقة الجماهير الثائرة بتلك النخب في الوقت الذي شهدت أوساط الشعبويين والمنبطحين للأنظمة القمعية ميلاد نخب تؤصل للفكر الشعبوي والديكتاتوري القمعي وتمنحه غطاء دينياً وثقافياً وسياسياً وفنياً وأدبياً.

أزمة الاستغلال السلبي لقضية فلسطين بخاصة من قبل اليساريين العرب الذين ساندوا نظام الديكتاتور السوري وسوغوا موقفهم بأنه ممانع لإسرائيل فكانوا بذلك أسوأ نموذج على الأحزاب اليسارية الثورية، فالأصل في تلك الأحزاب ثوريتها المطلقة على كافة مصادر وأصول وفروع الظلم المجتمعي لا التبرير لنظام سياسي قمعي وجره لاحتلالات الأرض إلى وطنه في سبيل عدم التخلي عن الكرسي الرئاسي في القصر الجمهوري، وتفاصيل هذه الأزمة تكمن أولاً: بالعقلية التبريرية اللاأخلاقية لسلوك أنظمة مجرمة في حق شعوبها وما تبع ذلك التبرير من منافحات ومطاحنات لا تعتمد المنطق ولا العقل في سبيل إثبات نفسها وإنما راحت تفترض أن النظام العنفي القمعي الذي هجر ملايين من أبناء شعبه في المنافي نظام مساند لقضية عادلة كقضية فلسطين وهذا أمر غير موزون بميزان العقل أو المنطق، فالأنظمة الديكتاتورية التي جلبت الاستعمار لأراضيها وقبلت أن تعمل تحت إمرتها بشكل مباشر في سبيل تقديم الحماية لها لا يمكن بأي حال من الأحوال إلا أن تمتثل لمصالحها التي تتقاطع بشكل كبير مع مصالح دول الاستعمار التي ترعى إسرائيل وتقدم لها الاستمرارية والحماية أيضاً، هذا بشهادة كبار الشخصيات السياسية والحربية في الجيش الإسرائيلي التي صرحت مراراً عبر إعلام الاحتلال أن بقاء بشار الأسد مرحب فيه وأنه يصب في صالح دولة الاحتلال.

ثانياً: السلوك الفكري العصابي الذي تسلكه تلك النخب التي تجادل بأن نظاماً ديكتاتورياً مثل نظام بشار الأسد ومن يسانده من حركات قتالية وأحزاب كحزب الله الذي لم يبق من مقاومته لدولة الاحتلال سوى ما تم طرحه في برنامجه الانتخابي ووثيقة انطلاق الحزب، لا يمكن بأي حال من الأحوال نسبة دعم قضية فلسطين لعصابات حاكمة تمارس كل أشكال القمع والعنف اتجاه مواطنيها وكل ما يخالفها، فهذا الاختطاف الذي تم من قبل من يدافعون عن أن النظام السوري يحمي ظهر المقاومة الفلسطينية رفضته الوقائع على أرض مخيم اليرموك والمخيمات الفلسطينية على امتداد سوريا ولبنان وفلسطين.

ثالثاً: أيضاً إقحام قضية فلسطين كمدخل تبريري لاستمرار أنظمة فاسدة وديكتاتورية يناقض حقيقة أن استمرار الاحتلال يعتمد بشكل أساسي على محيط عربي استسلامي تحكمه أنظمة ديكتاتورية قمعية توظف كل مواردها المادية والإعلامية والسياسية لحشد دعم لها ولتبييض صورتها خارجياً بحيث تحصل على حماية من القوى العظمى التي تساندها مقابل جزيات منتظمة الدفع ومقابل مناطق نفوذ وقواعد عسكرية على أراضيها.

رابعاً: التوظيف الاستهلاكي لقضية فلسطين ممن يظن أنه يسبغ أخلاقية أو قدسية على أنظمة ما رفعت شعارات من أجل مساندة فلسطين لا يجدي نفعاً في تطهير تلك الأنظمة الديكتاتورية من الدماء التي أراقتها لمواطنيها في شوارع الثورة وفي معتقلاتها وزنازينها حيث أخفت قسرياً وعذبت بوحشية بدائية في أفرعها الأمنية التي أعطتها اسم فلسطين تعدياً وانتهاكاً لعدالة تلك القضية فكانت أسوأ عدو لها.

خامساً: تميز المدافعون عن نظام بشار الأسد من مدخل فلسطين بإنكار تام للوقائع وقلب لها بالتعنيف والإرهاب اللفظي والفكري مع كل من يحاجج بأن ذلك النظام يحرس الاحتلال ويقدم له خدمات تأمين حدوده مع دولة الاحتلال، فتلك الشخصيات من النخب الثقافية والفكرية والدينية حاولت استخدام جمباز الكلام والاستعراض الفكري واستسهال خدع الناس عبر تأثيرها في سبيل دعم الديكتاتور، فلم يبخلوا على الناس بكتب وقصائد وسيناريوهات ورسومات كاريكاتورية وفتاوى دينية تمجد القاتل وتحثه على اقتراف المزيد من الانتهاكات بدعوى حفظ وحدة الأراضي السورية ومقارعة المؤامرة الكونية.

فلسطين قضية مركزية لكنها لا تلقي بقضايا تحرر الشعوب العربية وانعتاقها من الديكتاتوريات إلى الهوامش

سادساً: تميزت تلك النخب التي اختطفت اسم فلسطين من أجل مساندة الديكتاتور بعنصرية الجنسيات والتمييز في الحق الثوري حسب المناطق، فلا يمكن بأي حال أن تكون مجموعة سابقة على مجموعة أخرى بحقها في التحرر والانعتاق من ظلم الديكتاتوريات والقمعيات والاحتلال، ففلسطين قضية مركزية لكنها لا تلقي بقضايا تحرر الشعوب العربية وانعتاقها من الديكتاتوريات إلى الهوامش، كيف هذا والمنطق يقتضي بأن تحرر فلسطين يلزمه أولاً شعوب عربية ليست ضحايا لديكتاتوريات شعوب منعتقة لا تضع في اعتباراتها حسابات أمنية أو اعتقالات في صفوفها على خلفية مواقف سياسية تناهض التطبيع مثلاً، كيف لشعوب لا تستطيع لجم أنظمتها عن تطبيع دولة الاحتلال والتعامل معها والتحالف معها من مساندة فلسطين والفلسطينيين؟ كيف لشعب أنهكه الديكتاتور وجعل انشغاله بهمه اليومي في الحصول على لقمة عيشه أن يفكر بهموم وقضايا غيره؟

الانتقائية بالفكر الثوري وعدم العدالة في استيعاب دوافع الثورات من قبل شعب ينشد الحرية والكرامة والتغيير يرفع النخب الفكرية والثقافية والحزبية لمرتبة الديكتاتور لأنهم أدواته الحادة والمخرز الذي يوظفه في قمع يد التغيير، الانتقائية الثورية تعبر عن هزيمة أخلاقية بشعة تفوق الانبطاح التام للاحتلال أو الاستعمار والعمالة له، لأنها توظف أنبل الأدوات وهي الفكر والثورة في سبيل خدمة الديكتاتور فتكون بذلك عقبة كأداء وأشد فتكاً بعملية التغيير والانعتاق من الديكتاتور لو واجهها بدون ذلك الغطاء، فالتحالف بين قوى الفكر والثورية الانتقائية والديكتاتور أسوأ تحالف يشهده تاريخ المجتمعات التي تحارب من أجل حرياتها.

حالة التعدي السافر من قبل النخب الثقافية والفكرية والفنية على قضية فلسطين من أجل تبييض واجهة الديكتاتوريات أمام الشعوب والعالم حالة مستهلكة واستنفذت كل أوراقها حين هرولت تلك الديكتاتوريات من أجل تطبيع العلاقات مع إسرائيل أو التصريح بأن لا مشكلة لها في التطبيع مع دولة الاحتلال فبذلك هي قدمت دعوة واضحة للاحتلال لمساومتها على ثمن التطبيع والذي غالباً ما يتم سرقته من جيوب تضحيات الفلسطينيين.