الناتو كنظام عالمي جديد

2023.07.28 | 05:11 دمشق

آخر تحديث: 28.07.2023 | 05:11 دمشق

الناتو كنظام عالمي جديد
+A
حجم الخط
-A

"إن الناتو هو حلف إقليمي، إنما التحديات التي نواجهها هي تحديات عالمية" كان هذا هو التصريح الأهم لـ يانس ستولنبرغ الأمين العام لحلف الناتو غداة انتهاء الاجتماع الفرعي على هامش قمة فيلينيوس في ليتوانيا مع قادة دول مهمة على الصعيد الدولي مثل اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا.

حيث تبدو التحالفات الجديدة أقرب ما تكون لنواة لنظام عالمي جديد، يضم قيماً وأفكاراً ونظماً سياسية واقتصادية مشتركة ومتبادلة، غير مكترثة بالأصوات المتعالية من هنا وهناك اعتراضاً على المقترحات التي يقدمها الغرب كقيمة حضارية تقود العالم، في غياب كامل لنموذج حضاري مقابل، نموج متماسك يقدم طرق عيش وأسلوب حياة ويحفظ كرامة الإنسان ولقمة عيشه، فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي الذي لم يسقط إلا لسبب أساسي وهو الاقتصاد المحرك لبطون الجياع في العالم..لم يتم تقديم مقترح أو نظرية أو فرضية أو منهج مقابل للنموذج الغربي، كل ما تقدمه دول أخرى مثل روسيا أو الصين أو مجموعة البريكس هي أنماط لفرض القوة والبطش بالإنسان من أجل كسب مساحات جديدة في لعبة الجيوبوليتيك المستمرة مع الولايات المتحدة الأميركية، بينما ينتشر القمع والعنف وانعدام الحقوق في تلك البلدان دونما حساب أو عقاب أو حتى قانون عادل يحسم علاقة الإنسان بالدولة، وينظمها، فنحن جميعاً نعلم عن اللاعدالة التي تحدث أحياناً في النموذج الغربي، والتي يرددها دوماً الإعلام البروباجندي في الدول المعادية للغرب، ولكننا جميعاً نعلم أن هنالك قانوناً وعدالة في دول الغرب تقود رئيساً مثل ساركوزي وترامب وبوريس جونسون إلى المحكمة وربما إلى السجن عقاباً لانتهاكهم قيم وقوانين تلك البلاد.

لم يكن حلف الناتو مزدهراً يوماً بالقدر الذي يبدو عليه بعد قمة فيلينيوس بتعداد دول بلغ 31 دولة، وتحالف دفاعي قوي يعتبر الأقوى في العالم دون منازع

إذاً المسألة هي مسألة قانون وعدالة، وليست مسألة مؤامرة مستمرة ضد الأنظمة المعادية لواشنطن كما يتردد في دول فلك موسكو وبكين.

لم يكن حلف الناتو مزدهراً يوماً بالقدر الذي يبدو عليه بعد قمة فيلينيوس بتعداد دول بلغ 31 دولة، وتحالف دفاعي قوي يعتبر الأقوى في العالم دون منازع، مستعد للتدخل لحماية الدول الأعضاء في كل لحظة.. هي القوة إذاً تلك التي تحمي الحضارة كما قال يوليوس قيصر، وهي ذاتها القوة التي تحتاجها المجتمعات المزدهرة والمستقرة في أوروبا وشمال أميركا كي تستمر، فلا يمكن لك بناء مجتمع مزدهر وقوي دون وجود قوة تحميه من قبل الأعداء والخصوم والمتربصين.

مخرجات قمة ليتوانيا كانت حادة بعض الشيء تجاه المراقبين الروس والصينيين، فلا تفاوض مطلقاً مع الروس، والحل العسكري هو الحل الوحيد لإنهاء الأزمة الأوكرانية، مزيد من التضامن والتكافل والتنسيق الأمني والعسكري بين دول الحلف لمواجهة الخطر القادم من الشرق ضد النموذج الغربي للعالم..

لكن ماذا يفعل المعسكر المضاد الذي يراقب عن بعد؟، وحده فلاديمير بوتين اتخذ القرار المجنون بالتحرك عسكرياً ضد الحلف، فوقع في الفخ وسط مئات من العقوبات وطرد كامل من جنة العولمة الاقتصادية والاستثمارية، فانكشف الضعف والهوة الخارقة بين جيشه وبين جيوش الغرب. التكنولوجيا قالت كلمتها هنا، جزء من مناهج الحرب الحديثة تبدت في معارك أوكرانيا، الصين تراقب وتتخوف من أن تكون هي الهدف القادم للعقوبات وللطرد من عولمة الاقتصاد المتشابك والمترابط، الغرب يرى روسيا كمحطة وقود ضخمة للعالم، لكن حتماً يوجد بديل عنها، ويرى الصين مصنعاً للعالم، وحتما يوجد بديل له.. هنا تتقدم دول الخليج وإيران كمزود أساسي للوقود، وتتقدم الهند كمعمل جديد لكل شيء في هذا العالم.

من أجل كل هذا ومن أجل مواجهة تحكم الدولار بالاقتصاد العالمي، التي انطلقت بعد اتفاقية بريتون وودز، عام 1944، يبدو بأننا سنشهد عولمة لحلف الناتو. فالأمن والاقتصاد والقيم باتت في حقيبة واحدة.. وكما يقصف بوتين أوكرانيا ويهدد بقصف العالم بالقنابل النووية، نشاهده في تواتر دائم ينتقد الديمقراطية الغربية وقيم المجتمع الغربي، مستنداً إلى حائط القيم الدينية الأرثوذكسية المسيحية والإسلامية، معيداً للتحالف التاريخي بين الكنيسة والدولة ألقه، يطلق بوتين سخريته من مسألة الحريات الجنسية والنسوية وحقوق المهاجرين والنساء والمجتمع المدني، فيضحك رؤساء الصين وإيران وكوريا الشمالية.

فلا يعتقد أحد بأن بوتين وشي جينغ بين، يرغبان في توزيع الأموال على فقراء العالم، أو أن طرد فرنسا من إفريقيا سيعني أن الروس سيعيدون ثرواتها إليها، وهذا لا يعني أنهما سيلغيان ديون الدول، كل ما هنالك هو صراع الحيتان على الأسماك الصغيرة

إن التحركات في بحر الصين الجنوبي، والتحالفات المتشابكة بين طرفي المحيط الأطلسي، تسير في اتجاه واحد، هو المواجهة مع التحركات المنتظرة في اجتماع دول البريكس في جنوب أفريقيا، والقرارات التي سيتخذها القادة هناك حول إصدار عملة جديدة تكون بديلاً عن الدولار، مما سيعني حرباً حقيقية، لأن الاستعاضة عن الدولار بعملة أخرى يعني تقويضاً كاملاً للتفوق الغربي مالياً وحضارياً، سيعني إفلاس دول وانهيار مؤسسات كبرى. وبالتالي تغييرات كاملة في النظام المصرفي العالمي وتوقف سلاسل التوريد مما سيؤثر على السكان في أوروبا وأميركا حتماً، ولكن كذلك على السكان في الصين وأفريقيا والعالم العربي وآسيا كذلك. كل مواطن في العالم يعيش في استقراره البسيط مدين بذلك للنظام المالي الجديد، الذي يمنع حصول المجاعات ويسهل المساعدات والتضامن العالمي، مع العلم بالكوارث الرأسمالية التي تحيط به من استغلال ونهب وفوائد لا تصدق، مما سيفرض على أي منظر لنظام عالمي جديد أن يفكر في مليارات الفقراء الذين يعيشون كفاف يومهم في الصين والهند وآسيا وأفريقيا.. قبل أن يفكر في تغيير النظام المالي.

فلا يعتقد أحد بأن بوتين وشي جينغ بين، يرغبان في توزيع الأموال على فقراء العالم، أو أن طرد فرنسا من أفريقيا سيعني أن الروس سيعيدون ثرواتها إليها، وهذا لا يعني أنهما سيلغيان ديون الدول، كل ما هنالك هو صراع الحيتان على الأسماك الصغيرة.

في جميع الأحوال، تبدو نظرة حلف الناتو للعالم أكثر شمولية وجرأة بفضل خطأ بوتين القاتل في أوكرانيا،

فلقد أدرك الجميع أن المعادلات الحالية للصراع باتت صفرية، أكثر مما كانت عليه منذ خمسين عاماً على الأقل، ولا مجال للتهاون، فذلك يعني انهياراً مفاجئاً لطرف على حساب الصراع نفسه، لذلك فعنوان المرحلة القادمة هو التصعيد عبر الحرب الهجينة حتى اللانهاية، مع احتمالية تزايد الأزمات والصراعات الثانوية التي تحرك وتؤثر على الصراع الأساسي. قيم في مواجهة قيم. وقوى عسكرية تتأهب لحماية نظمها، بينما نحن نتفرج منتظرين المنتصر لنتحالف معه.