المحبون لفلسطين.. القاتلون للفلسطيني والسوري والعراقي

2020.02.01 | 23:01 دمشق

doc-p-530976-636786427748420265.jpg
+A
حجم الخط
-A

قالت مي خريش، نائبة جبران باسيل في "التيار الوطني الحر": "صفقة القرن عادت إلى الواجهة. بغض النظر عن المطالب المعيشية المحقة، لا تفصلوا ما حدث ويحدث في لبنان منذ 17 من تشرين من المطالبة بإسقاط الرئيس ميشال عون إلى الانتخابات النيابية المبكرة عن صفقة العار". وأضافت: "جبران باسيل.. ستفتقد القمة العربية لبسالتك في الدفاع عن فلسطين. هل سنجد من بين العرب من سيتجرأ على قول الحقيقة ومواجهة صفقة القرن".

هكذا، تلقف التيار العوني – الباسيلي صفقة القرن، ليعلن أن الانتفاضة الشعبية في لبنان هي مؤامرة مهدت لهذه الصفقة. بل ويوحي كلام السيدة خريش، أن ترمب ولكي يتجرأ على ما أقدم عليه، اضطر إلى افتعال ثورة شعبية في لبنان! بل ويرشح من كلامها أن ميشال عون شخصياً هو عقبة هائلة أمام الولايات المتحدة وإسرائيل، كما أن تصفية القضية الفلسطينية لا يمكن أن تتم إلا إذا سقط ميشال عون وجرت انتخابات نيابية مبكرة قد تضعف العونيين وحلفاءهم!

وتكمل المفوّهة، التي يتابع اللبنانيون هذرها التلفزيوني اليومي، هذيانها حول رئيسها الحزبي جبران باسيل، متحسرة على خسارته منصبه كوزير للخارجية. وهي خسارة قد تكون بدورها سهلت على ترمب إعلان صفقته، طالما أن لا دفاع عن فلسطين بغيابه. ففي ظن خريش، لا أحد يجرؤ على قول الحقيقة والمواجهة سواه. بل ووضعت "العرب" كلهم في كفة والفتى النابغة في كفة أخرى.

والحق أن خريش لم تبتدع هكذا صنف من الهذيان، قائم أصلاً على استغباء شديد لملايين البشر. ففي هذا الوقت أيضاً، كان السياسي المخضرم نبيه برّي، الرئيس الأبدي لحركة أمل الشيعية، والرئيس الأبدي أيضاً لمجلس النواب، يصدر "نداء" بمناسبة الإعلان

استخدام فلسطين ليس اختراعاً لبنانياً، فهو كان ولا يزال رائجاً في السياسات العربية وغير العربية، خصوصاً مع الأنظمة "الممانعة" وأحزابها وتياراتها.

عن صفقة القرن، فحواه الطلب من اللبنانيين عموماً وأنصاره خصوصاً ترك الشارع (أي ساحات التظاهر والاحتجاج) والتوجه نحو تحرير فلسطين. ففي رأيه أن الانتفاضة الشعبية فتنة تلهينا عن "القضية المركزية".

وهذا الصنف من السياسة في استخدام فلسطين ليس اختراعاً لبنانياً، فهو كان ولا يزال رائجاً في السياسات العربية وغير العربية، خصوصاً مع الأنظمة "الممانعة" وأحزابها وتياراتها. ومع هكذا سياسات، انقلبت فلسطين من عنوان للتحرر، ومدخلاً إلى الاستقلال والحرية.. إلى "لعنة" وبلاء على الشعوب العربية كلها وعلى الشعب الفلسطيني أولاً.

والمفارق أن الأكثر تشدقاً بـ"فلسطين" هم الأكثر اضطهاداً للفلسطينيين، وعلى نحو يتفوقون فيه على الاضطهاد الإسرائيلي نفسه. فإذا كانت عنصرية "التيار الوطني الحر" (أنصار ميشال عون وجبران باسيل) ضد الشعب السوري، خصوصاً اللاجئين منهم في لبنان، بازرة وصارخة في السنوات الأخيرة، فهي "عريقة" وقديمة تجاه الفلسطينيين عموماً، والمقيمين منهم في لبنان على وجه التحديد. فالشراسة التي يبديها العونيون في تثبيت إجراءات التمييز ضد الفلسطينيين في منعهم من التملك أو العمل وتجريدهم من الحقوق المدنية، بذريعة "رفض التوطين"، تتساوق مع خطاب حب فلسطين المستجد عندهم، والذي لا يخلو من مزايدة فائضة حتى على المتمرسين منذ عقود في هذا الحب. كذلك، فإن أتباع نبيه برّي يمكن اختصار تاريخ علاقتهم بفلسطين بأنها علاقة الحديد والنار مع الفسطينيين، منذ أن صارت حركة أمل مسلحة. إذ خاضت معارك طرد الفلسطينيين ومنظماتهم من قرى الجنوب حتى قبل الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وتوجتها بما عرف بـ"حرب المخيمات" التي استمرت سنوات من حصار والتدمير والتجويع والقتل في منتصف الثمانينات، على مثال ونموذج ما اقترفه النظام السوري في مخيم اليرموك وباقي المخيمات الفلسطينية في سوريا.

وقد برع النظام السوري في هذا النهج، أي حب فلسطين واضطهاد الفلسطينيين. بل إن العداء بين ياسر عرفات ومنظمة التحرير وحافظ الأسد وما جرّ من مجازر وحروب واغتيالات وويلات على الفلسطينيين يكاد يختصر كل إسهامات "سوريا الأسد" في القضية الفلسطينية.

الأهم من ذلك، عند العونيين والأمليين والأسديين، ليس ما اقترفوه ويقترفونه حتى الآن تجاه الشعب الفلسطيني، بل وباسم فلسطين، يلقي التيار العوني تهمة العمالة للصهيونية وللإمبريالية الأميركية على المنتفضين اللبنانيين ضد النظام الفاسد والفاشل. ويذهب نبيه برّي بالحجة ذاتها إلى اعتبار خروج مئات الآلاف من اللبنانيين طلباً للإصلاح ورفضاً للفساد، فتنة تؤخر تحرير فلسطين. أما بشار الأسد فقد جعل إبادة السوريين شرطاً لتحرير فلسطين. وربما هذا "التحرير" على الطريقة الأسدية يكون مقروناً بإبادة الفلسطينيين أيضاً.

وهذا كله "مذهب" في السياسة الإيرانية. إذ إن الخمينية – الخامنئية لا يسعها كبت الإيرانيين وقمعهم والتسلط عليهم إلا باسم القدس وشق الطرق إليها، عبر صعدة اليمنية أو حلب السورية أو ساحات البصرة وبغداد.. وعلى جثث اليمنيين والسوريين والعراقيين.

وهذا تاريخ يمتد ثلاثة أرباع القرن، أي منذ أن أشهر جمال عبد الناصر عقيدة "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، فصنع الهزيمة والصمت معاً (إلا خطاب الحماسة النرجسي). فكان طريق القدس حينها عبر اليمن.. وقمعاً لأهل غزة، وطبعاً للمصريين أجمعين. ومن نسله، كان القذافي الذي وجد طريق فلسطين هناك في شريط أوزو عند الحدود التشادية. فيما صدام حسين أرشدته البوصلة الفلسطينية إلى احتلال الكويت وحرقها وتدمير جيشه وإفقار شعبه علاوة على "أنفال" الإبادة الكيماوية للكرد، مضافاً إليها مقابر جماعية لثلاثمئة ألف عراقي "مشبوه" أو "معارض". ومن بعد هؤلاء كان نسل آخر يبدأ من أفغانستان أسامة بن لادن مروراً بفلوجة أبو مصعب الزرقاوي وصولاً إلى داعش الرقة وسنجار.. مضافاً إلى طرق حزب الله وأمثاله على امتداد الخريطة ذاتها.

هذا ولا ننسى على الضفة الأخرى، قادة أنظمة لا تقل فجوراً وفساداً، الذين

المصاب الفلسطيني هذا، من حرمانه حق تقرير المصير وحقه بوطنه وبحريته وبالعدالة والكرامة والمساواة، إنما باسمه قامت أحزاب وأنظمة وجيوش وميليشيات وديكتاتوريات لا تفعل سوى حرمان شعوبها من كل ما هو محروم الفلسطيني منه

وبذريعة قذارة الممانعة وإجراميتها وشرورها، يتبرؤون من فلسطين والفلسطينيين على نحو تتساوى فيه "الواقعية" بفقدان الكرامة القومية. بل ويخلطون عمداً بين القضية الفلسطينية وسياسة الممانعة، بما يرمي فلسطين وشعبها في أحضان تلك الممانعة وأنظمتها، رغبة بالتملص من أي مسؤولية أو واجب، واستسلاماً وتبعية تضمن بقاءهم وديمومتهم.

والمصاب الفلسطيني هذا، من حرمانه حق تقرير المصير وحقه بوطنه وبحريته وبالعدالة والكرامة والمساواة، إنما باسمه قامت أحزاب وأنظمة وجيوش وميليشيات وديكتاتوريات لا تفعل سوى حرمان شعوبها من كل ما هو محروم الفلسطيني منه.

والمصيبة الأسوأ أن من يتولى قيادة الشعب الفلسطيني اليوم هو إما في ذيل أنظمة الممانعة وإما في ذيل أنظمة الفساد.

بهذا المعنى، صفقة القرن هي تتويج لحصاد الممانعة القاتلة للشعوب، ولنتاج "الممالأة" المذلة للشعوب. صفقة القرن هي ثمرة وأد الربيع العربي.