المجتمع المدني السوري وتعميم النقد

2022.07.20 | 07:00 دمشق

المجتمع المدني
+A
حجم الخط
-A

في الدول المتقدمة سياسياً ومجتمعياً، والتي أسعفها التطور التاريخي بحد أدنى من النظام الديمقراطي، تلعب مؤسسات المجتمع المدني دوراً رائداً في المشهد العام. وهو دورٌ يتوزع على الحقول كافة بنسب وجود وفعالية مختلفة، بدءاً من حماية الطيور مروراً بالعناية الصحية ووصولاً إلى مهام مطالبية تتعلق بالحريات كافة وحقوق الإنسان.

وقد تطورت نشاطات المجتمع المدني في هذه الدول نتيجة عاملين أساسيين هما: تطوّر حرية التعبير والتجمّع والتنظيم التي كفلتها نصوص القوانين بالتوازي طرداً مع تطوّر مفهوم وممارسة المسؤولية الاجتماعية في البلاد. وفي مراحل متطورة أكثر، تشجع الحكومات على توسيع مجالات نشاط المجتمع المدني وتخصّص له تمويلاً محايداً يُضاف إلى التمويل الذي يحصل عليه المجتمع المدني من مخرجات المسؤولية الاجتماعية للشركات وللمؤسسات الخاصة والأفراد.

في المجتمعات كافة والتي هي في طور النمو، يمكن اعتبار تطور وتوسع عمل مؤسسات المجتمع المدني مقياساً لمدى نجاح العملية التنموية القائمة إن هي اصطُحِبت فعلياً بانفتاح سياسي طموح وبتعزيز لعملية التحول الديمقراطي التدريجي أو المباشر، وحتى إن الحكومات المستبدة شعرت بأهمية هذا الحقل، فقامت بالتعدي والتطفل على العمل المدني، فقد نجح بعضها في استقطاب بعض وجوهه التقليدية وقامت بالتالي بتنظيمهم في إطار ما جرى التعارف على تسميته في أدبيات العلوم السياسية بالـ"المنظمات غير الحكومية شديدة الحكومية" (GONGO’S).

وهذا ما عرفته وتعرفه الصين بامتياز، كما في بلدان عربية عدة لا مشروع ديمقراطي فيها ولا مسار تغيير في أي اتجاه يذكر ما عدا تعزيز التسلطية القائمة. فالمستبد لا يسعى إلى احتكار المجال العام سياسياً وثقافياً واجتماعياً فحسب، بل هو سيصادره مدنياً، حتى إن لم يتطرق العمل المدني للجوانب المطالبية واكتفى بحدود العمل الخيري التقليدي.

في سوريا، وبعد مصادرة الحيّز العام وتأميم العمل المدني وتكميم الأفواه واعتقال الأرواح ونفي الأفراد، افتقد الأهالي العملَ المدني طوال عقود. وتم حصر المفهوم بالعمل الخيري المناط بالجماعات الدينية تحديداً

في سوريا، وبعد مصادرة الحيّز العام وتأميم العمل المدني وتكميم الأفواه واعتقال الأرواح ونفي الأفراد، افتقد الأهالي للعمل المدني طوال عقود. وتم حصر المفهوم بالعمل الخيري المناط بالجماعات الدينية تحديداً. وحرّض توتر السلطات أيّ سعيٍ للتنظّم في مؤسسة مدنية غير سياسية وغير مسيّسة تسعى ولو إلى التوعية في مجالات الحياة العادية كأن تهتم مثلاً بأصحاب الاحتياجات الخاصة أو بمكافحة التدخين.

واستمر النقاش البيزنطي الذي تبنته حكومات الاستبداد حول الفوارق بين مفهومي المجتمع الأهلي والمجتمع المدني سنوات طوال، تم خلالها تمييع الحاجة الملحّة للخروج من حيّز الدوران في حلقة مفرغة تنحصر في تعريف المفاهيم إلى القيام باقتحام مجالاتها التطبيقية.

في سنوات "التحديث والتطوير" والتوريث، والتي حملت معها آليات جديدة لرفع مستوى التسلطية، مع محاولة السعي لإدخال تحسينات شكلية على مسارها، تنبهت السلطات إلى ضرورة القيام بخطوة أساسية تساهم في استدامة الطبيعة التسلطية للقائمين على حيوات السوريين. وانطلاقاً من هذه الرغبة، قامت أجهزة الدولة، الأمنية والمجتمعية، بإطلاق منظمات تدّعي قرباً من العمل المدني، ولكنها ترتبط بشكل عضوي بمفهومي الأمن والتسلطية. ولقد حازت هذه المؤسسات قبولاً وتمويلاً دولياً اعتماداً على قاعدة التخاذل الأوروبية التي استمرأتْ ما اعتقدت أنه "مستبدّ متنوّر" في عديد من بلدان المنطقة والتي تبنت عبارة "ليس في الإمكان أفضل مما كان" أو "أفضل من لا شيء". انهزامية مدروسة شجعت على ديمومة الاستبداد وتمويل مؤسساته "المدنية".

بدءاً من الأيام الأولى للحركات الاحتجاجية في سوريا، وقبل تحولها إلى فوضى دموية عارمة، عاش السوريون وعياً متقدماً جداً، غير متناسب مع مسار مجتمعهم، للضرورة الحتمية للعمل المدني. وفي هذا الإطار، قاموا بالتنظّم، دون أي تحضير نظري وبعيداً عن أية خبرة عملية، في مجموعات مدنية يمكن اعتبارها نواة صلبة للمجتمع المدني المنتظر والموعود.

واعتبرت الدراسات العلمية أن لجان التنسيق والمجالس المحلية ومجموعات الإعلام البديل والتجمعات الطبية والمنخرطين في العمل الإنساني، تعتبر كلّها وبنسب متفاوتة نوعاً من التعبير المُبشّر بالبدء في مسار استيعاب متطلبات العمل المدني وسبل تطويره.

وقد أدى ذلك إلى أن تكون هذه الجماعات أهدافاً رئيسية لكل عمليات المتابعة والملاحقة والتدمير التي اتبعتها السلطات. ولقد استطاع القمع الدموي القضاء على جزء كبير من الجهد الرامي لترسيخ مفهوم العمل المدني في إطاره الجديد وفي مجتمع يفتقد لكل اشكاله، إلا نادراً، وحيث أنسى الاستبداد المستدام الجيلَ القديمَ ما عرَفه في فتراتٍ سياسية ليبرالية مضت.

مع بدء التغريبة السورية ولجوء الملايين إلى دول الجوار أو ما بعدها، انتقل العمل المدني عبر انتقال فاعليه وتشجيع مموليه إلى دول الجوار أساساً وذلك تناسباً مع حجم المساحة التي تمنحها هذه الدول لمثل هذا النوع من النشاط

مع بدء التغريبة السورية ولجوء الملايين إلى دول الجوار أو ما بعدها، انتقل العمل المدني عبر انتقال فاعليه وتشجيع مموليه إلى دول الجوار أساساً وذلك تناسباً مع حجم المساحة التي تمنحها هذه الدول لمثل هذا النوع من النشاط. وبرع السوريون في جعل العمل المدني شكلاً بديلاً للمقاومة السلمية بالحفاظ على الحدود الدنيا من المساعدات الطبية والإنسانية، والغذائية، والتربوية، والتوعوية. ولا شك بأن هذا العمل اكتنفته سلبيات عدة يمكن اعتبار ضعف الخبرة أخف أنواعها ووصولاً إلى فسادٍ مالي وأخلاقي يُهّدد استمرارها.

رغم ذلك، لا مناص من تحفيز العمل المدني والسعي إلى إصلاح ما أصيب منه بالعطب. كما لا يمكن لأي خلل أو تصرّف لا أخلاقي بدر عن أفراد ينشطون فيه أن يسمح بشن حملة شاملة على أسسه ومساراته وآلياته. فإن أخطأ طبيبٌ أو حتى أجرم، فهذا لا يبرر البتة أن نهاجم مهنة الطب والعاملين فيها. وكذا هو المجتمع المدني.