المثقف والسلطة.. من جديد

2022.12.04 | 06:06 دمشق

المثقف والسلطة.. من جديد
+A
حجم الخط
-A

شهدت فعالية إقامة مباريات كأس العالم في قطر بنسخته الأخيرة لعام 2022 ردود أفعال متعدّدة ومتناقضة غالباً ولعلّ بعضها سبق الحدث بسنوات تمتد إلى لحظة الإعلان عن فوز قطر بتنظيم النهائيّات عام 2010..

على المستوى الرسمي ربّما كانت السياسة والاقتصاد وراء كثير من ردود الأفعال الرسميّة خاصّة تلك الانتقادات المتعلقة بحقوق الإنسان والمترافقة مع أزمة الطاقة العالميّة.

إلّا أنّ دور النخب الثقافية الرسمية بدا متناقضاً على طول الخط ومفارقاً لدرجة مدهشة خاصة في الإعلام المصري.. إذ تلقف الإعلام المصري الرسمي التهم الموجّهة إلى قطر وتبنّى تلك التّهم بحماس عال.. ثم عدل عنها أيضاً بحماس عالٍ ما إن وطئت قدم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أرض قطر للمشاركة في حفل افتتاح المونديال!

لعلّ مصر تعتبر رائدة الحداثة العربية عموما إذ بدأت الحداثة في مصر في وقت مبكر نسبيّا، وساهم المثقف المصري في الحداثة العربية بشكل لافت فماذا جرى حتّى انصاع المثقف الحداثوي عموما والمصري على سبيل المثال للسلطة إلى حد أنتج مفارقات مدهشة!

قد يتعلّق الأمر بالحداثة "غير الأصيلة" على حد زعم "برنارد لويس" إذ يصف حداثة الشرق أوسطيين بذلك، ما يجعل تلك الحداثة تتبنى أخلاقاً متناقضة وغير منتمية للثقافة المحلّية أحيانا.

رغم كلام لويس المستفز إلا أن الأمر يستحق الوقوف عنده إذ بدأت الحداثة منذ نهايات العهد العثماني ما أدّى إلى انهيار السلطنة كنموذج للثقافة الامبراطوريّة. إلا أنّ رغبة الدول الشرق أوسطيّة بالاستقلال، وسعي النخب إليه، لم يكن كافيا بالنسبة إلى دول متقدمة وقتذاك كفرنسا وإنجلترا.

اصطدمت النخب الثوريّة مع السلطنة وتمكنت من تجاوزها، لكن ما لم تتمكن تلك النّخبة من تجاوز تأثيره ربما كان اصطدامها كنخب مع المستعمر الغربي ولعلّ لذلك الاصطدام أثر بالغ ومستمر حتى يومنا.

السلطة فاعلية طبيعيّة في الإنسان، المنتكس وغير المنتكس، وتنظيمها مدنيّا ينتج القيم والحكومات المدنيّة

ربّما يمكننا الحديث عن كتلة منتكسة من جرّاء الاصطدام مع شروط المنتَدِب أو المستعمر. إذ انشق المنتكسون إلى تيّارين: أحدهما اتّهم المدنيّة فانتكس نحو الماضي وحلم باستعادة الخلافة أو السلطنة كنموذج مثالي ما قبل مدني. والآخر تبنى تهم الحضارة المنتدِبة للشعوب الشرقيّة بعدم قبول الثقافات المحلّية للقيم المدنيّة الغربيّة فانتكس إلى الأمام وأراد نفي ما يعيق المدنيّة الغربية عن واقع الشرقيين!.

السلطة فاعلية طبيعيّة في الإنسان، المنتكس وغير المنتكس، وتنظيمها مدنيّا ينتج القيم والحكومات المدنيّة؛ إلّا أن الملاحظة التي لا ينبغي إهمالها هنا: أنّ الانتكاسة الحاصلة صبغت النخبة المنتكسة بسلطة لها مصدران أيضاً: أحدهما متأتٍ من القضايّا الأصوليّة، والآخر متأت من "التغريب" بوصفه قضايا وكلا السلطتين ليستا أصيلتين بالمعنى العضوي.

قد تكون الأصوليّة السياسيّة أكثر وضوحا على طول الخط وصولا إلى تنظيمات متطرفة قابلة للحضور في كل أزمة، وربما لعبت السلطات الدوليّة الخارجية على تناقضات تلك النخبة المنتكسة واستثمرت فيها بين الحين والآخر. إلّا أنّ النموذج العلماني يحتاج أيضاً إلى إعادة دراسة. خاصّة أنّه تبنّى نظريّة التحديث والتغريب لا الحداثة ونمو المفاهيم!

كانت التجربة الكمالية وما زالت نموذجا تذكره الأصوليّة السياسيّة بالشر ويذكره المستغربون بالخير للتدليل على صحة نظريّة "التغريب" وممارسة الحداثة بفصل الواقع عن التراث.  إلّا أنّ النموذج ذاته بدا يحمل تناقضات ظهرت مؤخّرا في زمن العولمة إذ بدت العلمانية المنفتحة على الآخر الغربي مذعورة من الانفتاح على الآخر الشرقي، بل حتّى على الجذور الثقافيّة للشعب التركي كذلك!

وإذا كان "التغريب" قد أنتج مجتمعاً حداثيّاً في تركيا فإنّه لم يتمكن من إنتاج ثورة علمية حتى عهد أربكان الذي مثّل توجّها مناقضاً للتغريب ومؤيّداً للعلم بالمقابل!

أخذت الانتكاسة مظهرا آخر في بلدان مثل سوريا الكبرى أو بلاد الشام، إذ ارتبطت الحداثة العلمانيّة بالتغريب، ومثّلت قضيّة القدس، ومأساة الشعب الفلسطيني صوتاً عالي النبرة يذكّر المنتكسين بانتكاستهم وبتناقضهم طوال الوقت!

إذ اعتبر الأصوليون احتلال القدس دليلا على فساد المدنيّة، واعتبر العلمانيون أنّ تقسيم البلدان العربية حائل بين الواقع العربي وبين إمكانيّة بناء منظومة حقوق مدنيّة، فحمل الأصولي على الواقع ليعيده إلى الماضي، وحمل العلماني على الواقع للقفز به إلى المستقبل؛ فيما ظل الواقع بقضاياه الطبيعيّة والمدنيّة ينمو في العشوائيّات بعيداً عن كل نخبة!

وليس غريباً أن يسعى مثقف علماني إلى: إصلاح عقل المواطن العربي، وأن يسعى مثقف أصولي إلى إصلاح قلب المسلم العربي.. ليستحقّ ذلك "المواطن/ المسلم"، بعد إصلاحه، أن تأخذ النخبة برأيه وأن تعترف بسيادته!

وليس عجيباً أنْ تشعر كلا النخبتين بالحذر تجاه حريّة الإنسان العادي إذ إنّ ثورات الربيع العربي هي ثورات الهامش الذي تطور في غفلة عن النخبتين المنتكستين، لذلك بدت تلك الثورات، حتى وإن لم تنتصر بعد، كاشفة لعورات الجميع.

المثقف النخبوي يميني على طول الخط: "إمّا أو".  فهو إمّا مع قطر، أو ضد قطر، وإمّا مع حريّة المرأة، أو ضد حريّة المرأة..إلخ وأقل الاختلافات شأنا قادر على بعث فريقين منتكسين، غالبا لا يناقشان قضايا جزئيّة بل اتّهامات حادّة ومشخّصة بطريقة تخدم تعميم النتائج وشموليّتها.. مثل قضيّة حريّة المرأة على سبيل المثال.

يصف الأصوليون المثقف المصري قاسم أمين الذي دافع عن حريّة المرأة بالمستغرب وتهمة التغريب تنسحب حتى إلى "حريّة المرأة". وهذا ما يتلقّفه العلمانيون فيؤكّدون بدورهم أنّ قاسم أمين مستغرب، وأنّ حريّة المرأة معيار غربي!

وبينما يراجع المرء أنّ مبعث السلطة لكلا الفريقين ليس الواقع بل (الماضي أو المستقبل) وأن مصدر تلك السلطة ليس تفويضاً من المرأة ذاتها بل من (الجماعات والدول الداعمة لنموذج منتكس على حساب نموذج منتكس مقابل) يلاحظ ذلك المرء غياب الواقع وتغييب الإنسان، وأنّ المرأة على وجه الخصوص خاضعة لتسلّط مزدوج عجيب!

ربّما يصر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على ظهور امرأة متحجبة كمترجمة معه لكسر نمطيّة الجدل السابق غير المنتج، وربّما أرادت قطر بإصرارها على الثقافة المحليّة بعث رسالة عالميّة فحواها الشرق يمكن أن يكون مدنيّا وعالميّا دون الحاجة إلى التخلي عن ثقافته.

يخوض الشرق عموما ضمن بناه الفردية والمؤسسية ثورة لإصلاح الخلل بين المفاهيم المدنية الناتجة عن "التغريب والتحديث" وبين القيم الأصيلة في كل بلد

لكن هل على المثقف أن يعالج الفكر وأن ينتمي إلى الحقيقة أم  عليه أن ينتمي إلى السلطة ممثّلة بدولة ما أو بشخص رئيس ما على الإطلاق.. هل علينا أن ندافع عن نيّة التقارب بين الحكومة التركيّة وبين نظام الأسد مثلا!

يمكن للمثقف أن يكون مسؤولا كما أراد "إدوارد سعيد" في كتابه المثقف والسلطة، فلا يتّخذ جهويّة ما في أثناء نقده أو انتقاده، بل هو ينتمي إلى الفكرة وينحاز إلى الحقيقة. أمّا أن يهاجم المثقف أو يدافع بناء على تحرّك السلطة.. فلعلّ هذا مثقف سلطوي حتى لو خرج بزي ثائر لأجل الحريّة!.

يخوض الشرق عموما ضمن بناه الفردية والمؤسسية ثورة لإصلاح الخلل بين المفاهيم المدنية الناتجة عن "التغريب والتحديث" وبين القيم الأصيلة في كل بلد، ولعلّ تأصيل تلك القيم لا يعني تقييدها بمفاهيم ماضويّة ولا يعني التخلي عنها لصالح مفاهيم هلاميّة مناسبة لتلوّن المثقفين كلّما تغيّرت السلطة أو غيّرت توجّهاتها!

يمكن للمثقف أن يسترخي تحت ظلّ السلطة دون إنجاز مساهمة حقيقية في دورة الثقافة، ودون معالجة جادة لمنظومة القيم والمفاهيم. ويمكنه أيضاً أن يكون "مسؤولا" فيضيف إلى الحراك الثقافي التحرري بدل الاعتياش على تناقضاته!