icon
التغطية الحية

الماورائيات وخوارق الطبيعة والحكاية الشعبية.. عن العجائبي في قصص زكريا تامر(2–2)

2021.08.01 | 12:29 دمشق

zkrya_tamr-_tlfzywn_swrya.png
علاء رشيدي
+A
حجم الخط
-A

في كتابه (مدخل إلى الأدب العجائبي، 1970)، درس الناقد (تزفيتان تودوروف) العجائبي كجنس أدبي، وعمل على تحديد أسلوبيات تشكيله في القص، وتحديد وظائف العجائبي وموضوعاته. وقد ربط الأدب العجائبي بحضور "ما فوق الطبيعي" في النص، معتبراً أن تردد القارئ بين تفسير الطبيعي وما فوق الطبيعي للأحداث المروية هو الشرط الأساسي لتحقق الشرط العجائبي.

كما اعتبر تودوروف أن نوع القصة هو من أكثر الأنواع الأدبية استقطاباً للتخيّل العجائبي. أما على مستوى موضوعات الأدب العجائبي، فقد قسمها إلى قسمين: القسم الأول وهو المتعلق بعلاقة الإنسان بالعالم، يتجسد فيها غياب الفاصل بين الذات والموضوع، بين الفيزيائي والعقلي، بين المادة والروح، بين الشيء والكلمة، وبالتالي ضمنها الاستيهامات، الرؤى، أحلام اليقظة، اضطرابات الشخصية، ألعاب المرئي وغير المرئي، اختلال السببية والفضاء والزمن داخل النص. والقسم الثاني وهي المتعلقة بعلاقة الإنسان برغبته، بلاشعوره، وضمنها الرغبة وتحولاتها المختلفة، الحب والشهوة الجامحة، الحياة بعد الموت. ندرس في النص تجليات العنصر الأدبي العجائبي، موضوعاته، ووظائفه في المجموعات القصصية الخمسة الأولى للقاص (زكريا تامر)، وهي على التوالي: (صهيل الجواد الأبيض، 1960)، (ربيع في الرماد، 1963)، (الرعد، 1970)، (دمشق الحرائق، 1973)، و(النمور في اليوم العاشر، 1978). والتي تتجلى بالأنواع الآتية:

  1. الحضور الماورائي والمخلوقات الخرافية.
  2. عناصر الطبيعة الخارقة والحيوانات العجائبية.
  3. الحكاية الشعبية العجائبية.
  4. العجائبية المفاهيمية.

الحضور العجائبي للماورائي والمخلوقات الخرافية

في نصوصه بعنوان (كتاب المخلوقات الوهمية) يؤلف القاص (خورخي لويس بورخيس) مجموعة من الحيوانات الخرافية والكائنات العجائبية. وفي هذا القسم من قصص (زكريا تامر) تحضر كائنات ماورائية، قوى غير مرئية، أو مخلوقات عجائبية، فمثلاً في قصة (الرجل الزنجي)، يتخيل الراوي نفسه برفقة حضور رجل زنجي غير مرئي، يصفه الراوي بأنه صوت خارج من بواطنه. تجري بين الحضور غير المرئي للرجل الزنجي وبين الراوي حوارات عن الوحدة، عن الشهوة، وحوار هام آخر عن جدلية العدمية أو الالتزام في العمل. يختفي الرجل الزنجي في آخر القصة، بعد أن يسمح حضوره الوهمي بالتعرف إلى بواطن الشخصية الرئيسية واكتشاف علاقتها بالعالم من حولها، بالمرأة، وبمفاهيم مثل الالتزام أو العدمية. وفي (شمس صغيرة)، في زقاق آخر الليل، يظهر ملك الجان على شكل خروف ليحاكي (أبو فهد) يطلب منه أن يحمله على ظهره ويعده بكنز جرار من الذهب، ثم يختفي. حين يروي (أبو فهد) ما جرى لزوجته يحلم الثنائي معاً بحياة أفضل، تدفعه زوجته لمعاودة الانتظار ليلاً في ذلك الزقاق علّ ملك الجان يظهر مجدداً، لكن ذلك الانتظار في الليل يعرض (أبو فهد) لهجوم بسكين من رجل سكران، يؤدي الشجار بينهما إلى موت (أبو فهد)، هو موت السعي في سبيل حياة أفضل.

قصة (العصافير) تروي حكاية الطفلة (ندى) المشلولة التي تدعو ربها بأن تستعيد قدرتها على السير،  "فنزل من السماء رجل يرتدي ملابس بيضاء، ووقف قبالتها، ورمقها بحنان، ثم قال لها: ما بك؟"، لتعاد لها قدرتها على السير وتتطور أحلامها وتصبح قادرة على الطيران.

كذلك تبدأ قصة (عباد الله) بحدث عجائبي: "فرح الحفاة، فالسحب كانت رحيمة وتحب الإحسان إلى عباد الله المعوزين، فأمطرت أحذية من مختلف المقاييس غير أن عبد الله بن سليمان كان نائماً فلم يفرح إذ لم يظفر بحذاء، وظلت قدماه حافيتين". ويوسوس الشيطان لـ(عبد بن سليمان) لارتكاب جريمة في مقابل الحصول على حذاء وكساء لقدميه العاريتين، ثم تجعل القصة من (عبد الله بن سليمان) هو نفسه الشيطان، وعند إلقاء القبض عليه ومحاكمته، يسخر المؤلف في القصة من محاكمة سارق أحذية، بينما "اللاعدالة" هي السائدة في معاملات الحياة والجرائم الكبرى.

وأيضاً في (حقل البنفسج) تحضر قوى ماورائية، تتجسد بحضور المرأة المثالية في استيهيمات (محمد)، والتي تتحقق من ثم أمامه في رؤاه، لكنه حلم المكبوت غير القادر على التواصل مع هذه المرأة المثالية الحضور الخرافي. يلجأ (محمد) إلى الساحر، يلجأ إلى الشيخ، ثم يلجأ إلى الشيطان. لكن الشيطان نفسه يعاني من مشكلة (محمد) بتمامها، فالشيطان أيضاً متيم بهوى أنثى، لكنه فقير وقبيح، وغير قادر على إعالة أسرته.

الحيوانات العجائبية وعناصر الطبيعة الخارقة

في هذا النوع من القصص العجائبية، تحضر حيوانات تمتلك قدرات خارقة، تتجسد عناصر الطبيعة بكونها كائنات فاعلة. في قصة (النجوم فوق الغابة) يتواصل الفتى (نزار) مع حيوان القرد ليبثه مشاعره المتألمة من فقدان والدته، وكذلك يتواصل مع شجرة التفاح لمعرفة مصير والدته فيما بعد الموت.

أيضاً، في قصة (النهر الميت) هناك إدانة للثقافة الذكورية، فبينما يفتخر الأب بالعثور على ابنه (طارق) مع مومس، ويعتبره على أثر ذلك تحولاً للرجولة عند ابنه، يقتل الأب ابنته بداية القصة لأنها عاشقة. تستمر القصة للتعبير عن آلام (طارق) بفقدان أخته عبر تهيؤات نفسية بصرية، فيحلم (طارق) بأنه متحد بحضور النهر، هديره متحد بأنفاسه، ويتماهى مع حركة رحيل النهر المستمر هرباً من الألم.

وفي قصة (الشرطي والحصان) نقابل حصاناً قادراً على التفكير والفعل وامتلاك الإرادة، والتمرد مما يؤدي في النهاية إلى محاكمته من قبل الشرطة، ويحكم عليه بالموت شنقاً.

أما في قصة (الهزيمة) فيتجلى العجائبي في العالم الذي ترسمه القصة، حيث يقود فيه الجرذان البشر ويتسيدون على عالم الإنسان: "وفي تلك اللحظة دخل إلى المطعم جرذ أنيق الثياب، وكان يجر خلفه طفلاً أشقر الشعر، يمشي على يديه ورجليه، وتطوق عنقه سلسلة حديدية".

وفي قصة (الأعداء-السماء المفقودة) يتحدث عصفوران عن اكتظاظ السماء بالطائرات المقاتلة، ثم يقدمان على الانتحار بابتلاع حبوب مميتة. وكذلك قصة (النمور في اليوم العاشر) فهي أمثولة أخلاقية من عالم الحيوان، كما في حكايات (كليلة ودمنة)، فالنمر في القصة يرمز للمواطن، فتبدأ القصة بالنمر حراً وبعيداً في الغابات، ويوماً إثر يوم يتم ترويضه، للنمر في الحكاية مزايا الإنسان فهو قادر على الحديث، الحوار، التمرد، ثم الخضوع، وفي اليوم العاشر يختفي النمر من القفص ويتحول إلى مواطن.

الحكاية الشعبية العجائبية

تتخذ مجموعة من قصص (زكريا تامر) بنية وأسلوبية الحكاية الشعبية التي تنطوي بتراثها على حضور الخارق والعجائبي

تتخذ هذه المجموعة من قصص (زكريا تامر) بنية وأسلوبية الحكاية الشعبية التي تنطوي بتراثها على حضور الخارق والعجائبي، منها قصة (النسيان) مثلاً من نوع الحكاية الشعبية، التي تجري في مدينة تخييلية، يفد إليها رجلٌ غريبٌ يحمل نبوءة الدمار، لكن القصة سرعان ما تكتشف أنه هو الموت نفسه، وبعد أن يحاكمه ملك المدينة ويقطع رأسه، تزداد خزائن الملك ذهباً وينسى رعية هذه المملكة الموت. عبر الدمج بين قالب الحكاية الشعبية والعنصر العجائبي، يرغب القاص أن يبين مزايا الحاكم العادل، هو الذي يحمي سكان مدينته، ويحجب عنهم ما أمكنه يد الموت، عبر إحلال السلام.

مع اكتمال أحداثها تتخذ قصة (الشجرة الخضراء) طابع الحكاية الشعبية، وهي تبدأ حين تبكي طفلة أمام صخرة، فتفتت الصخرة ويخرج منها طفل حبيس ليلعب معها، يتحاوران، ويتخيلان ألعاباً، وبينما يلهو الطفلان أمام الشجرة الخضراء يأتي رجال وينفذون حكم إعدام قرب الشجرة، فيموت المحكوم بالإعدام وتموت الشجرة. يخاف الطفل والطفل، يضم بعضهما بعضاً، ثم يتحدان كمخلوق واحد، ومن بعد يتحولان معاً إلى صخرة. حكاية عن تشويه الإنسان للطبيعة مما يؤثر على مساحات لعب الأطفال وخيالهم وعلاقتهم بالطبيعة.

في قصىة (الراية السوداء)، يروي معلم المدرسة للتلميذ (غسان): "في قديم الزمان كان قمران يبزغان على الأرض، تشاجرا يوماً، فتفتت القمر المهزوم قطعاً صغيرة سميت فيما بعد بالنجوم"[1]، القمر المنتصر في القصة هو التخلف والتعصب، بينما القمر المهزوم هي الثقافة والعلم، وهي حكاية (غسان) الذي يعيش في مدينة عجائبية سكانها مقطوعو الرؤوس في إشارة إلى ضياعهم وانفصالهم عن العقل، لذلك يتعرض شبان الحارة لـ (غسان) ويتهمونه بالثقافة والتعالي ويحاكمونه لسفور أخته فيقتلونه.

يصبح (غسان) كما باقي سكان المدينة بلا رأس، وتنتهي الحكاية وهو يحمل راية سوداء ويلتحق بركب أهل المدينة، في إشارة إلى انتصار التعصب والتخلف على الثقافة والعلم.

وتتألف قصة (حارة السعدي) من ثلاثة أقسام، القسم الأول بعنوان (العدو) يدافع فيها أبناء حارة (السعدي) عن شجرة التين أمام هجوم أبناء حارة (مرجان)، ينجحون في الزود عن الشجرة، لكنهم حين ينامون ليلاً يستسلمون لحلم يقودهم فيه خروف إلى البساتين، إن انجذابهم إلى بساتين الحلم، يفقدهم قدرة الدفاع عن شجرة التين في الواقع، ويفقدون ثمارها. حكاية شعبية عجائبية، تبين ضرورة الحفاظ على مكتسبات الواقع وعدم الانجرار وراء شهوات الأحلام.

قصة (في الصحراء) أيضاً تقارب بنية الحكاية الشعبية وتحتوي على العنصر العجائبي، حين يمتلك رجلٌ الريح ويصبح موعوداً في الجنة، يقبل مقايضة الريح والجنة بدواء لأسنانه المنخورة وسرير واسع كسهل. خلاصة الحكاية أن المالك للريح والضامن للجنة في العالم العلوي يتخلى عنهما لأجل الخلاص من الألم الجسدي الدنيوي. كذلك بنية قصة (الأعداء-أصفاد الموتى) تماثل بنية الأمثولة الشعبية العجائبية، فحين تعترض حبيبة على تعلق عشيقها بأجداده من الأموات، يحاول الرجل التخلص من أجداده، لكن الموتى يوثقونه بالأصفاد ويدفنوه. هي حكاية عن سطوة العادات والتقاليد، وثقل الماضي على مشاعر الحب والعشق.

العجائبية المفاهيمية

هي تلك القصص التي تستعمل العنصر العجائبي من أجل معالجة مفهوم مجرد عبر فن الحكاية، أي أن هذا النوع من القصص يوظف الشرط السردي الفوق-طبيعي أو الخارق، في سبيل تكوين حكاية قادرة على معالجة مفهوم مجرد. فمثلاً، لدينا قصة (الكذب)، المؤلفة للدفاع عن مفهوم العقل، تبدأ حين يقول المعلم لتلاميذه على أن الرأس أعظم ما في الإنسان، لكن التلاميذ يرغبون التحقق من صحة ذلك، فيقطعون رأس أحدهم ويهرسونه بالأرض فلا يعثرون إلا على الفراغ، ثم يعيدون الرأس إلى التلميذ مرةً أخرى، الذي ما إن يستعيد وعيه حتى يسأل إن كان المعلم صادقاً أم كاذباً، دليل على أنه لم يدرك شيئاً دون رأسه. هنا يستعمل القاص الشرط الخارق، لغاية إثبات مفهوم واحد وواضح، وهو دور الرأس – العقل في عملية إدراك العالم.

تجمع قصة (قبل اليوم السابع) بين الأمثولة الشعبية والحكاية العجائبية المفاهيمية، فبعد أن ينجب الزوجان في الحكاية طفلاً، يشعر الذكر ألا حاجة إلى وجوده بعد الآن، فيغادر البيت في رحلة إلى مدينة عجائبية، تحول سكانها إلى خشب بفعل ساحرة، تطلب فتاة من القادم الجديد إلى المدينة أن يقتل الساحرة ليحرر الناس من خشبيتهم. يمكن اعتبار هذه المغامرة استيهام داخلي في ذهن الزوج يبتكر فيه عالماً حيث هناك حاجة ماسة لوجوده ولإنقاذ الناس من لعنة السحرة. ينتهي الحلم حين يستيقظ الزوج أمام المرآة، وينحر نفسه بمدية لأن الزوجة لم تعد بحاجة إليه. هي حكاية عن شعور الزوج بالهامشية بعد الإنجاب.

رغم أن أحداث قصة (التراب لنا وللطيور السماء) تجري في مدينة دمشق فإنها تخييلية، فحين تتعرض دمشق للهجوم، يحار الملك والرعية كيفية الدفاع عنها، فما يلبث أحد الرعية العلماء أن يطلعهم على سلاح الطائرة، تظهر العجائبية هنا بابتكار أحد العلماء لطائرة في العصر الملكي، لكن لهذه العجائبية وظيفة تتضح مع مجريات القصة، فبعد اطلاعهم على ابتكار الطائرة، يخشى أهالي دمشق أن يؤثر الاختراع الجديد على سلطة الدين، ويخشون من تأثير العلم على العادات والتقاليد، ثم يخشون من استعمال سلاح الطائرة ضد الملك نفسه، فيهمون مع الملك بقتل العالم المبتكر. هي حكاية رفض الثقافة الدينية، الشعبية، والملكية العلم والإبتكار العلمي.

أخيراً، هذه هي تجليات العجائبي في قصص المجموعات الخمسة الأولى للقاص (زكريا تامر)، وهي تتدرج في حضورها داخل النص من مجرد كونها أحلام أو تخيلات لشخصيات، إلى تلك القصص التي تصنف بالكامل تحت إطار نوع الأدب العجائبي.

ــــــــــــــــــ

 


[1] - تامر، زكريا، دمشق الحرائق، قصة (الراية السوداء)، منشورات النوري، الطبعة الثانية، 1978، ص79.