icon
التغطية الحية

الاستيهامات والخيالات والتحولات الحياتية.. عن العجائبي في قصص زكريا تامر (1-2)

2021.07.24 | 12:15 دمشق

zkrya_tamr-_tlfzywn_swrya.png
علاء رشيدي
+A
حجم الخط
-A

في كتابه (مدخل إلى الأدب العجائبي، 1970)، درس الناقد (تزفيتان تودوروف) العجائبي كجنس أدبي، وعمل على تحديد أسلوبيات تشكيله في القص، وتحديد وظائف العجائبي وموضوعاته. وقد ربط الأدب العجائبي بحضور ما فوق الطبيعي في النص، معتبراً أن تردد القارئ بين تفسير طبيعي وتفسير ما فوق الطبيعي للأحداث المروية هو الشرط الأساسي لتحقق الشرط العجائبي.

وكذلك، اعتبر تودوروف أن نوع القصة هو أكثر الأنواع الأدبية استقطاباً للتخييل العجائبي. أما على مستوى موضوعات الأدب العجائبي، فقد قسمها إلى قسمين:

القسم الأول: الموضوعات المتعلقة بعلاقة الإنسان بالعالم، يتجسد فيها غياب الفاصل بين الذات والموضوع، بين الفيزيائي والعقلي، بين المادة والروح، بين الشيء والكلمة، ولذا ضمنها الاستيهامات، الرؤى، أحلام اليقظة، اضطرابات الشخصية، ألعاب المرئي وغير المرئي، اختلال السببية والفضاء والزمن داخل النص.

القسم الثاني: المتعلقة بعلاقة الإنسان برغبته، بـ لاشعوره، وضمنها الرغبة وتحولاتها المختلفة، الحب والشهوة الجامحة، الحياة بعد الموت. ندرس في النص تجليات العنصر الأدبي العجائبي، موضوعاته، ووظائفه في المجموعات القصصية الخمسة الأولى للقاص (زكريا تامر)، وهي على التوالي: (صهيل الجواد الأبيض، 1960)، (ربيع في الرماد، 1963)، (الرعد، 1970)، (دمشق الحرائق، 1973)، و(النمور في اليوم العاشر، 1978). والتي تتجلى في الأنواع الآتية:

  1. خيالات الطفولة.
  2. الاستيهامات والخيالات والأحلام.
  3. تحولات الشخصية.
  4. العودة من الموت.

خيالات الطفولة العجائبية:

في كتابه (اللعب والواقع المساحة الافتراضية، 1971)، فتح العالم النفسي (دونالد وينيكوت) الباب واسعاً لنظريات علم النفس والتحليل النفسي في التركيز على دور اللعب في نمو الوعي عند الطفل، ومن ثم، دور الخيال في تطوير الوعي والتواصل مع الواقع لتشكل الذهن.

في العديد من قصص (زكريا تامر) تحضر هذه القدرة الطفولية في التواصل العجائبي- اللُعبي مع العالم. في قصة (الوجه الأول) ترتسم التفاصيل الباطنية لعالم (مأمون) الطفولي الذي يعاني من الوحدة في ظل امتلاكه لخيال جامح يدفعه إلى حاجة اللعب، يلهو خيال الطفل مع الغراب، ويختلق قطاراً يقوده، وكذلك يتخيل دمى القطط والكلاب والدببة والبحارة كائنات حقيقية تشكو الجوع. كذلك، في قصة بعنوان (الأطفال) يحلم الطفل بجنية تأخذه إلى البحر، ويرى القمر وهو يشرب الماء، ويتحدث إلى القطط، ويتواصل مع النهر، ويتخيل الطفل نفسه غزالاً في صحراء يتم اصطياده ويهيأ للذبح. تعارض القصة بين خيالات الطفل العجائبية وبين عالم والدته الواقعي-الفيزيائي.

الطفولة في قصة (الرعد) مختلفة عما ظهرت عليه في القصص السابقة، فالطفل في هذه القصة كاره للحياة وللفصول والليل والنهار وأيام الأسبوع، وكاره للشمس والقمر والنجوم، وكاره للرجال والنساء، ويأمر الطفل الغيوم بألا تذهب إلى المدرسة، ويأمر الشمس بألا تشرق. وفي نهاية القصة يخترع الطفل قنبلة ذرية لتفجر العالم بأكمله، وتشرق الشمس على أنقاض.

يدين القاص في هذه الحكاية اختراع السلاح، وخصوصاً القنبلة الذرية التي يعتبرها من نتاج خيال طفولي كاره للعالم وراغب بدماره. أما قصة (الطفل نائم)، فتدخلنا أيضاً في الخيالات الطفولية العجائبية، فيرى الطفل في حلمه دميته وقد تحولت إلى أميرة حقيقية، والبحيرة وقد تحولت إلى بحر تجلب شطآنه رجالاً إلى المكان يهمون باغتصاب الأميرة. هي حكاية استيهامات طفولية داخلية قلقة من الخطر المحدق بعالمها الخاص والذاتي. وتشكل قصة (رندا) النموذج المثالي في نوعية القصص التي تفتح على خيالات الطفولة في التواصل مع عناصر الطبيعة، مع الحيوانات، ومع الأشياء.

الاستيهامات والخيالات والرؤى والأحلام العجائبية

تعتبر الاستيهامات والخيالات والأحلام من العناصر السردية الأساسية في الأدب الفانتازي، في (حكاية نور الدين مع أخيه شمس الدين) من (حكايات ألف ليلة وليلة)، تختلط الحقيقة بالوهم والخيال بالماضي في ذهن الشخصية الرئيسية (بدر الدين) الذي ما إن يستعيد وعيه نهاية الحكاية حتى يتساءل: "هل أنا في أضغاث الأحلام أو في اليقظة؟".

هذا التداخل بين الواقع والاستيهام الذهني في خيال الشخصية القصصية، نتلمسه في مجموعة (زكريا تامر) القصصية الأولى (صهيل الجواد الأبيض)، وفي القصة الأولى منها بعنوان (الأغنية الزرقاء الخشنة)، التي يوظف فيها القاص حلم اليقظة للتعبير عن بواطن الشخصية الرئيسية في حكايته والذي هو الرواي نفسه. يحلم الراوي في هذه القصة بامتلاك القدرة على هدم مصانع ومعامل الكرة الأرضية بأجمعها، يحلم بتجميع الآلات التي ابتكرها البشر في مكان واحد للقضاء عليها، إيماناً منه بضرورة عودة الإنسانية إلى النقاء وإلى العلاقة مع الطبيعة والارتباط بالأرض. وفي قصة (القبو) تحضر أيضاً أحلام اليقظة كجزء من الأسلوب السردي، تأخذ هنا أسلوب الاستيهامات الجنسية، فيتهيأ للراوي الذي ينصت إلى أسطوانة موسيقية خروج امرأة هي (ماري)، التي تتشكل أمامه من أثر الألحان الموسيقية، وتالياً يخضع الراوي هذه المرأة الزائرة إلى استيهاماته الجنسية الشبقية، كما ويتهأ للراوي أنه يتهم ويحاكم بجريمة قتل والده، ويشنق على إثرها، لكن القارئ ما يلبث أن يكتشف أنها مجرد أحلام يقظة، لنعود في النهاية إلى الواقع المعيشي القاسي لبطل الحكاية أي حياته الواقعية في القبو. قصة (القبو) تجسد الاستيهامات الفنية، الجنسية، والعنفية والعلم نفسية في بواطن الشخصية الرئيسية. أما في القصة التي تحمل المجموعة عنوانها، (صهيل الجواد الأبيض)، يكون حضور الجواد الأبيض هو حضور الخيالي، حضور الخرافي الفائق للمنطق، فيتحول الجواد الأبيض في النص إلى وسيط عجائبي يمنح الراوي قدرة على التنقل بين العوالم، من عالم الشقاء إلى عالم الخلاص، من عالم البلوغ إلى عالم الطفولة، فيحلم بأنه يقابل مجدداً حبيبة طفولته ليعاود الحب بينهما، يحلم بأنه يقابل قاتله ليمنحه لذة إنزلاق النصل على لحمه اللين. إن الحب والعنف هي الاحتمالات التي يتراوح بينهما الذهن في هذه القصة.

تتألف قصة (رجل من دمشق) من أربعة أقسام تشكل كل منها أيضاً حلماً من أحلام الراوي للقصة، الأحلام التي تعبر عن شهواته ورغباته، فيحلم بأنه يتبادل الحب مع مانوكان، جسد نسائي بلاستيكي، عند واجهة محل الأزياء، يحلم بالحياة الغنية، يحلم بمدينة الكسل والتثاؤب، وهي مدينة شنقت الجوع والكآبة والضجر بحسب ما تصفها القصة. هي إذاً حكاية أحلام الرفاهية، الجنس، والامتلاك. أما في القصة الأخيرة التي تحمل عنوان (قرنفلة للإسمنت المتعب) فيتراكب العجائبي على طبقات متعددة في النص ليعبر عن الشهوة الجنسية والخوف من الجنس في الآن عينه. الشخصية الرئيسية في هذه القصة هي فتاة، يستحضر الغناء الخارج من مذياع الجيران شهواتها الجنسية، التعطش للجسد الرجولي، لكن وصايا والدتها تحضر من ذاكرتها وترسم لها موانع عدم الاقتراب من الرجال. وكذلك حكايات الجدة التي تعلم الحيطة والحذر منهم، فتحضر في ذاكرة البطلة حكاية روتها لها جدتها امرأة عجوز يختطفها سبعة رجال، في حين تتذكر الفتاة الحكاية تدخل في صلبها، لتحل محل المرأة العجوز، تأخذ مكانها وتشعر بهيجان الرجال وأحاديثهم الشهوانية عنها. هكذا تتقلب الاستيهامات الذاتية لهذه الشخصية بين الرغبة في الجنس وبين الخوف منه.

قصة (ثلج آخر الليل) تدين الثقافة البطريركية، وهي تروي حكاية (يوسف) الأخ المجبر على قتل أخته، ونص القصة عبارة عن صراع (يوسف) الداخلي بين الإقدام على الجريمة وبين مشاعره العاطفية تجاه أخته، وللهروب من هذا الصراع الداخلي يتمنى (يوسف) الموت، يتجسد الموت حضوراً فيزيائياً أمامه ويجري حوار بينهما يطلب فيه (يوسف) من الموت أن يأخذه بعيداً عن هذا العالم القاسي، يحلم (يوسف) بمكان حيث الناس يعزفون على الطبول ويؤدون الموسيقى، عالم لا يقوم إلا بالاحتفال، كمقابل معاكس لواقع حال عالمه الذي بلغ من القسوة أن يجبر الأخ على قتل أخته.

كذلك، في قصة (الباب القديم) تلعب الاستيهامات دوراً للهروب من الواقع، يتجسد ذلك في خيالات جندي في المعركة، يحلم بأنه عاد طفلاً يلهو عند محطة القطار. ويحضر العجائبي في قصة (في يوم مرح)، حين يزور الراوي وأخته محلاً لبيع الأطفال ويشترون طفلاً، ما يلبث الطفل أن يتحدث إلى الراوي متوعداً إياه بالقتل، فيقدم الراوي على نحر الطفل حين يكون نائماً ويقطعه إلى قطع لحم صغيرة نيئة يقدمها طعاماً للقطط والكلاب، ثم يسلم الراوي نفسه للشرطة فيحاكم ويعدم، لكن القصة ما تلبث أن تعاود السرد من جديد كأن كل ما جرى هو تهيؤ للشخصية الرئيسية، ويعثر الأخ على الطفل مجدداً ويعيده إلى أخته. في قصة (البستان) يتداخل الحلم والحدث الواقعي على الشخصية الرئيسية (سليمان) الذي يعيش لحظات الحب مع حبيبته (سميحة)، وفي القصة يهجم خمسة رجال على الثنائي العاشق في خلوة بستان ويعرضون على (سليمان) تقاسم (سميحة) جنسياً، وبينما توحي لنا القصة بأن ما يراه (سليمان) حلماً، فإنه وحالما يفتح (سليمان) عينيه يستمر الحلم في الواقع فيرى الرجال يهمون باغتصاب حبيبته أمام عينيه.

قصة (البدوي) واحدة من أطول نصوص (زكريا تامر)، وظف فيها القاص العديد من التقنيات السردية المتعلقة بالنوع العجائبي، فتتداخل في وعي الشخصية الرئيسية (يوسف) أحداث اللحظة الراهنة مع ذكريات من الطفولة، وتحمله أحلام اليقظة إلى تجارب خارقة، وتختلط رؤى الخيال باستيهامات من القلق والشهوة، ويتداخل أيضاً عالم الموتى بعالم الذكريات وعالم الأحياء، وتنتهي استيهامات وذكريات ورؤى (يوسف) بالجملة الآتية: "بدا له الأمس مجرد حلم أسود بدده الصباح". وفي قصة (لا غيمة لأشجار، ولا أجنحة فوق الجبل) يعتقل (سهيل بدور) لأنه مزق صورة الحاكم ويتعرض للتعذيب، وحين يعود إلى منزله وفي أثناء محاولة النوم، تحضره رؤية المدينة مغطاة بالمشانق والجثث، هي نبوءة استشرافية عن حلول العنف والصراع في ظل القمع الممارس على المواطنين.

التحولات الشخصية

في أبرز كتب الأدب الروماني (التحولات) يتخيل (أوفيد) تحول الكائنات، البشر، الجمادات بناءً على لعنات أو عقابات إلهية، وفي روايته (التحول) يحوّل (فرانز كافكا) شخصيته الروائية إلى حشرة. العجائبي في هذا المحور من قصص (زكريا تامر) يتعلق بالتحولات التي تعيشها الشخصية، والتي تصل إلى التحولات المافوق واقعية في الزمان، المكان والفضاء، منها مثلاً تعدد الذوات، كما في قصة (الكنز). تجمع هذه القصة معظم عناصر النوع العجائبي بحسب ما نظر إليه (تزفيتان تودوروف)، تبدأ القصة حين يحضر (الشيخ عبدو) خبير الكنوز إلى منزل (أحمد) ليعلمه أن هناك كنزاً من ذهب تحت شجرة الليمون في داره، وبينما يبدأ (أحمد) بالحفر، وعلى أثر مشروب قدمه له (الشيخ عبدو)، تنقسم ذاته إلى حضورين، (أحمد) الأول الذي يقوم بمهمة الحفر، ينبثق عنه حضور (أحمد) الثاني، الذي يتسكع في شوارع المدينة، يتخيل نفسه في قصة من (ألف ليلة وليلة)، يتخيل نفسه مع فتاة يعشقها، يعيشان كزوجين بعدما فنيت الحياة من البشر إلا هما. كل القصة هي حلم عجائبي، تتوالد فيها من الأنا الواحدة أنا أخرى، إحداهما تسعى للحصول على الكنز، والأخرى تمارس حياتها الهامشية، المشردة، والحالمة باستيهامات ذاتية خاصة.

في قصة (ربيع في الرماد) تبدل تحولي في شخصية الرجل والمرأة التي يروي النص علاقتهما، هذا الثنائي هو الناجي الوحيد من معركة أدت إلى فناء كل سكان المدينة التخييلية التي يفتتح النص بالحديث عنها، بين الفقرة والأخرى في القصة يتحولان إلى (شهريار وشهرزاد).  كذلك العجائبية في قصة (الجوع) فتشكل من التحولات التي تطرأ على هوية شخصيتها الرئيسية، ففي البداية يكون (أحمد) متشرداً جائعاً يأكل رسمة للجوع قدمها له صديقه الرسام، ثم يتحول (أحمد) إلى ملك يقدم على أكل طفل في طبق ملكي، ثم نكتشف أنه طبيب أطفال يعاني هو نفسه من الفقر والجوع. وفي قصة (خضراء) تتحول امرأة مشردة وفقيرة إلى شجرة، يصف النص ذلك التحول: "رويداً رويداً تحول اللحم إلى خشب اكتسى بقشرة متشققة"، ولأنها شجرة يابسة عطشى يقوم المزارع بقطعها بالفأس في نهاية القصة.

العودة من الموت

يحدد (تزفيتان تودوروف) ما بعد الموت، كواحدة من موضوعات الأدب العجائبي، ويوظف (زكريا تامر) مراراً هذه التقنية لمعالجة الكثير من القضايا. في قصة (ابتسم يا وجهها المتعب) وعلى أثر أغنية من الحنين تبثه الحياة مجدداً يعود الراوي من قبره، لكنه ما يلبث أن يقابل الناس الذين يعاملونه كمخلوق تافه، والدته لا تتعرفه، ويعامل من قبل أخوته كمجنون، فيضطر العائد من الموت إلى التسكع في المدينة وحيداً ينهشه الجوع، يعرض عليه أحدهم الإقدام على جريمة قتل لامرأة مقابل مساعدته للبقاء على قيد الحياة، فيقدم الميت على ارتكاب الجريمة، وحين يحاول العودة مجدداً إلى قبره يتوه عنه ويفقده. هي حكاية عودة ميت إلى الحياة مجدداً ليكتشف شقاء المدينة وشروط العيش القاسية التي تدفعه إلى القتل للحصول على طعام، ليتوه عنه قبره في النهاية. كأن القصة تضمر مقولة أن عالم الموت أفضل من العودة إلى شروط الحضارة في الحياة. وفي قصة (الصقر) يذهب الراوي لزيارة والده في القبر، فيخرج صوت الأب من الموت ليوجه لابنه الأسئلة، يجري حديث بينهما يكشف عن حال القمع، وانعدام حرية التعبير التي تعاني منه البلاد، فيحكم الأب على الابن بالموت غرقاً، وحين يصبح الابن جثة تحت الماء يتخيل مدينة تحترق تحت سماء خضراء دلالة على الخراب الذي سيحل بالبلاد، كأنه يرى في لحظات موته الأخيرة نبوءة استشرافية لمستقبل بلاد تعاني من القمع وحرية التعبير.

تتضمن قصة (موت الشعر الأسود) أكثر البنى العجائبية شيوعاً، فشبح (فاطمة) الأخت التي قتلت على يد أخيها لأنها لا تطيع أوامر زوجها، يعود شبح المغدورة من الموت إلى حارة (السعدي) لتطرق على الأبواب مكررة الاستغاثات التي أطلقتها في لحظات الموت الأخيرة، كأن حضورها العجائبي من الموت يذكر أهالي الحارة بذنبهم الدائم بعدم إغاثتها، كأن شبحها الحاضر يذكر بالجرائم المرتكبة في المجتمع في حق المرأة. وفي قصة (الحفرة) يقابل رجل عجوز مصادفةً فتاة صغيرة تخبره باسمها (نوال)، ما يلبث أن يحضر أخوها ويضربها لتواصلها مع الغرباء، وبعد حين تظهر مجموعة من الرجال يحملون تابوتاً، يضعونه قرب الرجل العجوز ويفتحون النعش ليجد (نوال) منحورة العنق، يتهمونه بقتلها ويطلبون منه الزواج بها، وحين يجيب بألا صلة له بموتها، تنهض (نوال) من قبرها وتتهم العجوز بقتلها. يحزن العجوز على (نوال) ويهم إلى عناقها لمساعدتها، وحين يعود العجوز إلى بيته أخيراً، يجد طقوس العزاء تخيم على المنزل، إنه يوم دفنه، فيجد نفسه محمولاً في تابوت ويلقى في حفرة ليموت وهو يصيح منادياً امرأة منحورة العنق. هذه القصة من أقسى القصص التي تصور حال المرأة والقمع والرقابة الذكورية الممارسة عليها من قبل المجتمع.

في قصة (الزهرة) تعود يد بشرية مدفونة تحت التراب إلى الحياة، ترفع التراب عنها وتتحرك وحدها خارجة من القبر، ثم تبدأ باستعادة ذكرياتها حول الحياة والعالم، تتذكر حكاية صاحبها، إنه رجل عاشق وقُتل بسبب عشقه. قرب المقبرة تشهد اليد قدوم خمسة رجال ومعهم امرأة تطلب منهم أن تساعدها ابنتها في الدعارة، توافق البنت وتطلب مالاً، وحين تشهد اليد ما يجري تقرر العودة إلى القبر لتدفن نفسها تحت التراب. هي أمثولة عجائبية أخلاقية، حيث اليد العائدة من الموت، تقرر دفن نفسها مجدداً حينما تكتشف الأخلاق والمبادئ السائدة في المجتمع.

يصف الناقد (هارتموت فارندريتش)، في ورقته النقدية بعنوان (شخوص تاريخية وأسطورية في قصص زكريا تامر)، تقنية سردية يمكن اعتبارها عجائبية في نصوص (زكريا تامر)، وهي استحضار القصص لشخصيات من التاريخ ومعالجتها تخييلياً. فيعود في قصة (الجريمة) الشخصية التاريخية (سليمان الحلبي) ليعاقب على فعله البطولي المناضل ضد الاستعمار، وفي قصة (الذي أحرق السفن) يستعاد (طارق بن زياد) من الموت ليحاكم على جرم إحراق السفن التي استعملها في الفتوحات. ويصبح الشاعر المبدع (عمر الخيام) متهماً بالفحش والتنوير والثقافة ويحاكم على ذلك في قصة (المتهم)، وفي قصة (الاستغاثة) وحده (يوسف العظمة) يسمع استغاثة الطفولة السورية فيعود من الموت لإنقاذها، كل هذه القصص تستعيد شخصيات وطنية تاريخية أو أدبية ليتم محاكمة أعمالها وفقاً لقيم الحضارة الزائفة المعايير، التي يسخر القاص منها بهذه التقنية السردية.