icon
التغطية الحية

الليبرالية الاجتماعية السورية: عبد الرحمن الكواكبي

2022.06.01 | 12:57 دمشق

tbay-alastbdad-wmsar-alastbad-bd-alrhmn-alkwakby.jpg
+A
حجم الخط
-A

يتناول الباحثون موضوع الحريّة ضمن اتجاهين: أحدهما يتجه نحو المنهج الطبيعي، والآخر إلى العلوم الاجتماعية من فلسفة وتاريخ وموروث ديني. وفي كلا الحالتين فإنهم يؤكّدون أن الإنسان حرّ، كما خلقه الله، أو بحسب الطبيعة.

(إن الله خلق الإنسان حرّا، قائده العقل) هذا ما قاله عبد الرحمن الكواكبي الذي توفي سنة 1903، وفي كتابه: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، إشارات تدل على أن صدور النسخة الأولى من الكتاب سبقت وفاته.

ينتمي الكواكبي إلى مرحلة فاصلة بين حقبتين وتوجّهين: تنتمي الأولى إلى استبداد العصر الوسيط الذي استقى منه الكواكبي مادّته في الاستبداد. في حين تنتمي الحقبة التالية إلى حلم الحداثة في نموذجها القومي والتي كان الكواكبي أحد أهم روّادها.

أعلن الكواكبي هويّته في الصفحة (8) من الكتاب: (أنا المسلم العربي) ومن تلك الهويّة وجّه خطابه إلى أبناء الشرق وإلى الشباب بقوله: (يا قوم وأعني بها المسلمين.. يا قوم وأعني بها الناطقين بالضاد من غير المسلمين).

هدف الكواكبي إلى معالجة الاستبداد السياسي بوصفه: (صفة للحكومة المطلقة العنان.. التي تتصرف في الرعيّة كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب..)

القوميّة بالنسبة للكواكبي رابطة لغويّة وثقافيّة وتاريخيّه، لا نزعة اثنيّة كما يتصوّرها كثير منا اليوم. لذلك دعا الكواكبي إلى إنشاء رابطة وطنيّة: (اعتمادا على العلم أسوة بالأمم الأخرى)، ويبدو ذلك بشكل أكثر وضوحا في دعوته أبناء قومه "من غير المسلمين بصفتهم السبّاقين في المسألة التنويريّة" إلى المساهمة في إنشاء مواطنة محلّية من دون الاعتماد على دعوى: (الشحناء من الأعاجم والأجانب) يقول أيضاً: (دعونا.. نحن ندبّر شأننا، نتفاهم بالفصحاء، ونتراحم بالإخاء، ونتواسى في الضراء، ونتساوى في السراء. دعونا ندبّر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط. دعونا نجمع على كلمة سواء ألا وهي: فليحيَ الوطن..).  

هدف الكواكبي إلى معالجة الاستبداد السياسي بوصفه: (صفة للحكومة المطلقة العنان.. التي تتصرف في الرعيّة كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب..).

أما أشد الحكومات المستبدة بالنسبة إليه فهي: (حكومة الفرد المطلق الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينيّة..).

مرّ الكواكبي على آثار الاستبداد تحت العناوين: "الاستبداد والدين، والاستبداد والعلم، والمجد، والمال، والأخلاق، والتربية، والترقّي، ثم الاستبداد والتخلّص منه" ما أتاح للكواكبي تشريح الاستبداد داخل كل عنوان بذاته، ثم في وحدة فكريّة متماسكة تجمع محاور الكتاب كلّها.

أمّا منهج الكواكبي فبدا مبنيّاً على الاستقراء بالعقل في الميدانين الطبيعي والديني. ففي العلاقة بين الاستبداد وبين الدين استعرض الكواكبي آراء علماء التاريخ الطبيعي للمسألة، وأنّ سبب العلاقة.. يكمن في إرادة المستبد تذليل الناس. وعن دور رجال الدين.. فاتفق مع آراء العلماء جزئيّاً، لكنه يذكر على لسان علماء طبيعيين آخرين: (أن إصلاح الدين أبعد أثراً من إصلاح السياسة، ويستشهدون بالإصلاح السكسوني البروتستانتي، وأثره في تحرّر تلك الأقوام..).

كمصلح اجتماعي فإنّ الكواكبي أشار، غير مرّة، إلى تفضيله النموذج المدني الإنجليزي، أو الأميركي على النموذج الفرنسي.. وقدّم بدوره نماذج من إعادة قراءة النص الديني ونفى تهمة الاستبداد عن النص.

 من تلك القراءات مناقشته لتأثير علماء الاستبداد في تفسير الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) حيث يصرّون على إبراز الطاعة، ويهملون (منكم) التي تشير –بحسب الكواكبي- إلى أنّ الأمّة هي مصدر السلطة.

كما أورد أمثلة على تأثير علماء الاستبداد في المفاهيم كمفهوم العدل في قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل..) حيث فسّروا "العدل" بأنه ما قاله الفقهاء، مع أن العدل لغة هو: التسوية. أي المساواة.. ويعجب كيف فطن أولئك العلماء إلى أن يسقطوا العدالة عن الذي يأكل وهو ماشٍ في الأسواق، لكنهم لم يفطنوا إلى أن يسقطوا عدالة الحاكم المستبد!.

(ومن يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسؤوليّة حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصبر عليهم إذا ظلموا، وعدّوا كل معارض لهم بغياً يبيح دماء المعارضين؟!).

فضح الكواكبي الاستبداد كل مرّة بواسطة عرضه أمام قيمة، أو حق طبيعي وشرعي من تلك القيم:

- المسؤوليّة: ولعلّها الأكثر أهميّة في فكر الكواكبي الذي دائماً ما يبحث في المسألة بناء على إعادة قراءة "أصيلة" للنص الديني، إضافة إلى معالجة عقلانيّة فـ: (كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته) يشير بوضوح إلى أنّ الإمام والعبد، والمرأة والرجل، وكل ذلكم مسؤول، والمسؤوليّة تقتضي وجوب الحريّة، وتتنافى مع مآل الاستبداد بحسب قراءة الكواكبي للحديث الشريف.

ويضيف في مكان آخر: (يا قوم أعيذكم بالله من فساد الرأي.. وترك الإرادة للغير، فهل ترون أثراً للرشد في أن يوكل الإنسان عنه وكيلاً ويطلق له التصرف في ماله وأهله.. هل خلق الله لكم عقلاً لتفهموا به كل شيء، أم لتهملوه كأنّه لا شيء؟).

- حريّة الإرادة: إذ إن "الأعمال بالنيّات.." بحسب الحديث الشريف، أمّا الاستبداد فيمنع "الأسَراء" من بلوغ النيّة، فهم مملوكو الإرادة.. ولا يرتجى منهم علم ولا عمل!

-المساواة: بين الناس امتثالا للحديث الشريف: (الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) يضيف الكواكبي: (يا قوم.. ما هذا التفاوت بين أفرادكم وقد خلقكم ربّكم أكفاء في البنية، أكفاء في القوّة، أكفاء في الطبيعة، أكفاء في الحاجة..).  

-الفرديّة "الاستقلال" والتفاوض كسلوك مدني: يقول الكواكبي في وصف الأمّة الحرّة والأفراد الأحرار: (بل يرى أحدكم نفسه إنسانا كريما يعتمد على المبادلة والتعاوض فيسلف ثم يستوفي، ويستدين على أن يفي، بل ينظر في نفسه أنه هو الأمّة وحده. وما أجدر بأحدكم أن يعمل لدنياه بنفسه لنفسه.. كما يعمل الإنسان ليعبد الله بشخصه لا ينيب عنه غيره..).

الأمّة المسؤولة هي مصدر السلطة السياسيّة، والفرد المستقل مسؤول كذلك، والمسؤولية تقتضي العمل لنيل استحقاق الحريّة

أما عن علاقة الاستبداد بالمال فرأى الكواكبي أن (حفظ المال في عهد الإدارة المستبدة أصعب من كسبه..) ودعا إلى (المعيشة الاشتراكيّة) وإلى: (توسيع نظام التعاون والتضامن في المعيشة العائلية إلى إدارة الأمم الكبرى). ولتحقيق ذلك في المسألة الاجتماعيّة رأى: (أن يكون الإنسان حرّا مستقلا في شؤونه كأنه خُلِق وحده. وكذلك تكون العائلة كأنها أمّة وحدها، والقرية أو المدينة، والقبائل مستقلّة.

ربّما يمكن للقارئ أن يلاحظ مدى اهتمام الكواكبي بـ(المسؤوليّة) كنقطة جوهريّة، فالأمّة المسؤولة هي مصدر السلطة السياسيّة، والفرد المستقل مسؤول كذلك، والمسؤولية تقتضي العمل لنيل استحقاق الحريّة. أمّا عن طبيعة العمل ضد الاستبداد فالكواكبي لا يدعو إلى: (الشدّة إنما يقاوم باللين والتدرّج.. يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد).

والمسؤوليّة تقتضي كذلك أنّ: (الأمة التي لا يشعر أكثرها بآلام الاستبداد فلا تستحق الحريّة ولا الاستقلال، وقد تنقم على المستبد نادراً ولكن طلباً للانتقام من شخصه لا طلباً للخلاص من الاستبداد. فلا تستفيد شيئاً إنما تستبدل مرضاً بمرض..).

طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، مؤلّفٌ ضم مجموعة مقالات كتبها الكواكبي لمجلّات مضى على إصدارها أكثر من قرن وربع، لكنّ تلك المقالات المسؤولة حملت حساسيّة ضد الاستبداد، وإخلاصاً في مقارعته، جعل منها مرجعاً تاريخيّاً سوريّاً يمكن أن يعيننا، نحن السوريين، اليوم على تجاوز تخلّفنا السياسيّ والاجتماعيّ. وهكذا هي آثار من يسبقون عصرهم عادة.