اللاجئ سبينوزا واللاجئ السوري يلتقيان في هولندا

2023.08.19 | 06:45 دمشق

اللاجئ سبينوزا واللاجئ السوري يلتقيان في هولندا
+A
حجم الخط
-A

مرّ سبينوزا بحالة اللجوء منذ نحو أربعمئة عام من البرتغال إلى هولندا، بل إنه اضُطر لاحقاً كذلك، مع عائلته إلى تغيير دينه من اليهودية إلى المسيحية خوفاً من السلطة الدينية، ومحافظة على روحه، ثم عاد إلى دينه ليقع في صراع مع السلطة الدينية نتيجة قراءاته وآرائه دفعت أهله للتخلي عنه ليعيش تجربة نزوح قسري داخلي أكثر من مرة، بلغة العلوم السياسية اليوم.

 ونتيجة تجربة اللجوء وقراءاته وما مر به من أوضاع متباينة وظروف فكرية مختلفة، ونبوغه الشخصي قدم رؤية لتفسير الكون عرفت لاحقاً بفلسفة سبينوزا، تختلف مع رؤية ديكارت وتتقاطع في نقاط عدة مع هوبز، لكنها في اختلافاتها وتقاطعاتها تبرز خصوصية رؤيته للدين والإله والوجود والسياسة والأخلاق والمفاهيم الأساسية المتعلقة بالحريات والنفس البشرية.

غير أن الاقتصاد الرقمي وما مرت به هولندا بعد الحرب العالمية الثانية جعل نظريات سبينوزا حول المجتمع والحياة الاجتماعية والحاجة إليهما في حالة مساءلة، نتيجة النزعة الفردانية التي آلت إليها هولندا والحياة الغربية عامة وقد كان المجتمع والحياة الاجتماعية وحاجاتهما واحتياجاتهما وما تقدمانه وما تأخذانه من الفرد موضعاً مركزياً في رؤاه الفلسفية إذ "لا تقوم الحقوق الذاتية (مثل حقوق الإنسان) في حد ذاتها في فلسفة سبينوزا السياسية، فهي مؤسسة من مؤسسات المجتمع، ولا وجود لها إلا في الدولة المدنية. علاوةً على ذلك، يؤمن سبينوزا أنه لا معنى لمفاهيم الصواب والخطأ في المجتمع، ويعود السبب في ذلك برأيه إلى غياب المعايير المشتركة في الحالة الطبيعية، فلا وجود إلا للرغبات الفردية، أي الرغبات التي يمكن أن تدفع الناس إلى السيطرة على الأشخاص الآخرين الأضعف منهم" ويكاد يعادل مفهوم سبينوزا للمجتمع اليوم وحاجة الفرد إليه الدولة المدنية وأنظمتها.

وقد تواكبت حياة سبينوزا في هولندا وصراعاته مع السلطة الدينية خاصة والتخفي والظروف الاقتصادية الصعبة التي مر بها على المستوى الشخصي مع الفترة التي أعلنت هولندا استقلالها عن إسبانيا والبدء بمرحلة الاستعمار نحو إندونيسيا وأميركا اللاتينية وبلجيكا واللكسمبورغ، وهي ذات الفترة التي سيطرت فيها هولندا على عدد من الطرق البحرية العالمية، ربما أسهم ذلك فيما طرحه من أفكار سياسية وأخلاقية.

لا يحتاج اللاجئ السوري اليوم إلى أن يضع نظريات أو يقدم أفكاراً حول إدارة تلك البلدان التي أنجزت الكثير الكثير وتحتاج إلى محركات وديناميات لما قامت به

وعلى العكس من سبينوزا، ابن الثلاثين عاماً، الذي كان منشغلاً بوضع تفسيرات معرفية وأخلاقية وفكرية وسياسية للبلدان والمجتمعات خاصة في كتابيه: (أخلاقيات، ورسالة في اللاهوت والسياسة) لا يحتاج اللاجئ السوري اليوم إلى أن يضع نظريات أو يقدم أفكاراً حول إدارة تلك البلدان التي أنجزت الكثير الكثير وتحتاج إلى محركات وديناميات لما قامت به، ولا ترغب تلك البلاد بمن يعيد اكتشاف (هل العربة أمام الحصان أم العكس أم البيضة سابقة للدجاجة أم العكس)، بل تحتاج إلى من يحرك هذا الاقتصاد بفكرة جديدة أو يكون عامل إنتاج في آليات الاقتصاد الموجودة مسبقاً.

 حدثني أستاذ جامعي سوري لاجئ في هولندا أن اسمه قد وضع في قائمة عمال الإنتاج في البلدية على الرغم من معرفة الموظفة بشهاداته، إلا أن "السيستم" الموجود في البلدية لا يوجد فيه مثل تلك المرتبة، إذاً؛ لا حاجة لأساتذة جامعات، لكن يمكن أن تكون الحاجة إلى أطفالهم حيث يتم تهيئتهم ليقدموا الجديد بعد أن يتفهموا ما هو موجود وسياقاته ليصبحوا جزءاً من نمط الحياة أولاً وبعد ذلك منفذين لسياسة "السيستم" أو مطورين له، هل ذلك من الأخلاق في شيء؟ لا إجابة نهائية أو واحدة حول ذلك.

تشاء ظروف اللجوء أن أصبح في مرحلة ما من مراحل لجوئي جاراً لبيت سبينوزا الذي قضى فيه سنتين من عمره بعد أن فرّ من أمستردام (نحو ثلاثين كيلومتراً جنوب أمستردام)، نتيجة رفضه من المجتمع وتخلي أهله عنه، محافظة على حياتهم وسمعتهم وأعمالهم في عصر سيادة الدين في أوروبا في القرن السابع عشر في قرية راينسبورغ بالقرب من مدينة لايدن حيث سكن سبينوزا مع آخرين في بيت لجأ إلى أحد غرفه وتابع عمله في صناعة عدسات النظارات وعدسات المناظير التي كانت تستعمل في اكتشاف طرق السفن البحرية. برع الرجل في مهنة يطور فيها أولاً بأول كأنه يريد أن يقول السيادة ستكون للعلم عاجلاً أم أجلاً، غير أن سيادة العلم يجب أن تكون مقترنة بالأخلاق، في عصر كانت فيه نقاط التلاقي بين العناصر ضعيفة، وكل ثيمة تعتقد أن من حقها الاستبداد بالحياة، وفيما كانت بلاده تستعمل تلك العدسات لترى المسافات البعيدة أو ليرى الشخص نفسه الأشياء بوضوح كأن سبينوزا يريد أن يقول: إن البداية الصحيحة للفلسفة تبدأ من الرؤية الصحيحة لمن اعوج نظره أو أراد أن يرى الآفاق البعيدة.

يقول محدثي الهولندي من منظمة بيت سبينوزا إن علاقته بصناعة العدسات أكبر من كونها علاقة عمل وكسب عيش بل كانت شغفاً بحيث ربما كان الغبار المنبعث من صناعتها هو السبب بإصابته بمرض أنهى حياته مبكراً.

شغلني اللجوء وتبعاته وأوجاعه عن بيت سبينوزا سنوات عشر لتحرضني زيارة صديقي الصحفي السوري، القادم من إسطنبول على زيارة بيت سبينوزا، حيث كنت أحاول أن أجهز لصديقي برنامجاً معرفياً أبعد من المدن الكبرى حيث الحشيش والفاتنات وأول ما يراه السائح في بلد ما، لأنه من محبي الكتب والمتاحف والاكتشاف المعرفي والإنساني، وقد رحت أحدثه عن تحليلي للمجتمع الهولندي وقد كان الصديق مصغياً جيداً رغم طول شروحاتي واكتشافاتي.

يحدثنا المتطوع في منظمة منزل سبينوزا بحماس عن مسيرة حياة سبينوزا، عن مخطوط كتاب الأخلاق الموجود في روما في مكتبة الفاتيكان، عن عدد من الزوار الراغبين بالمبيت في البيت حيث يريدون أن يستحضروا روح سبينوزا، وعن توقيع شوبنهاور وما كتبه في سجل الزيارات وتاريخ البيت ومتى غدا متحفاً وعن تجديده، يشرح لنا كيف كانت تصنع العدسات هنا، حيث توجد آلة شبيهة لتلك الآلة التي كان يستعملها سبينوزا أو ربما هي، والمخطوطات التي قرأها وساهمت في تشكيل شخصيته، وكذلك يوجد في بيته نسخة من ترجمات كتبه إلى اللغات الأخرى.

في اليوم السابق برفقة صديقي الصحفي السوري، زرنا بيته في دينهاخ وقد عاش فيه سنوات سبع وتوفي فيه ودفن في مقبرة في كنيسة قريبة.

الحدود الجغرافية مصطلح مائع أعجب البشرية فترة فأخذت به، لكن مصيره الزوال خلال فترة قريبة، فاجعل من كل مرحلة تعيشها وطناً لك، استمتع بلحظتك الحاضرة معرفياً ووجودياً فالانتظار يقتل السعادة

تحدثنا السيدة المتطوعة في البيت أنها اتبعت مؤخراً دورة تكشف عن دور الثقافة العربية في فكر سبينوزا وأثر ابن عربي والحلاج وابن ميمون فيما كتبه، وتقول باعتزاز: في هذا البيت أنهى سبينوزا كتابه أخلاقيات، والتمثال الموجود أمام بيته أقيم تكريماً لذكراه، وفي كل مدينة هولندية هناك شارع باسمه، يسجل صديقي حديثها، يغلبه طبعه الصحفي فيلتقط الصور ويسجل الأحاديث، يبدو صديقي سعيداً وهو يعيش في جو فلسفي معرفي.

أتساءل مع سبينوزا عن مصائر البشرية، وعن مصيرنا نحن السوريين وعن اللجوء ونهاياته فيقول: الحدود الجغرافية مصطلح مائع أعجب البشرية فترة فأخذت به، لكن مصيره الزوال خلال فترة قريبة، فاجعل من كل مرحلة تعيشها وطناً لك، استمتع بلحظتك الحاضرة معرفياً ووجودياً فالانتظار يقتل السعادة.

نختم الزيارتين إلى بيتي سبينوزا برفقة صديقي الصحفي السوري بكتابة كلمات تذكارية في دفتر خاص، يلتقط صديقي بطاقته الإيجابية العالية الصور ويحثني على مزيد من التفاعل ليخرجني من أجواء اللجوء وتبعاته، ونتحدث عن كيف منحنا البيتان أولاً بأول شعوراً دافئاً كأنك تعيش في منظومة أفكار سبينوزا، إذ تستذكر لجوءه ومعاناته وتحولاته وتخفيه، تستذكر كذلك رحلة العرب والمسلمين في الأندلس في مرحلة الصراعات، يعنُّ على بالك أنك وسبينوزا تنتميان إلى ديانتين مختلفتين تمت محاربتهما فترة من الزمان من الديانة السماوية الثالثة، تسأله: كيف آلت الأمور، إذ إن الكثير من أتباع ديانته غدوا مغتصبين! وكيف أن من أجبر أصحاب ديانتك وديانته على التخلي عن ديانتهما الأصلية ها هو اليوم يتخلى عن الجانب الديني لتغدو الدولة المدنية هي الحل وتغدو المجتمعات الأوروبية في جانب كبير منها مجتمعات لا دينية بنسبة كبيرة جداً. بل إن ما كانت الحروب الدينية هي المحركة له تليه حروب السيطرة ثم حروب النموذج وكيف تتغير الأدوات، ويتساءل صديقي: هل يمكن أن تصل النفس البشرية إلى الاكتفاء وتتوقف عن الحرب والسيطرة أم أنها مجبولة على ذلك أو لكي تعيش يجب أن تكون كذلك!

أتساءل مع صديقي الصحفي، صاحب الطاقة الإيجابية، في لحظة ضعف وعتب وتعب، (أسميها سردياً لحظة لجوء) ونحن نتأمل تمثال سبينوزا اللاجئ على أرض هولندية، عن الثمن الكبير الذي دفعناه كسوريين، رغبة في الحرية، وهل من أمل في أن يلحق بلدنا بما وصلت إليه بلدان العالم؟

فيذكرنا بما سبق أن قاله، قبل ما يقارب أربعمئة عام:

"ولما قدر لنا أن نحظى بهذه السعادة النادرة، وهي أن نعيش في جمهورية (كانت هولندا آنئذ جهورية) يمارس فيها كل فرد حرية التعبير وعبادة الله كما يشاء. ويَعُدُّ الجميع الحرية أغلى النعم وأحلاه. فقد رأيتُ أنني لن أكون قد قمتُ بعمل جاحد أو عقيم إذا ما بينتُ أن هذه الحرية لا تمثل خطراً على التقوى أو على سلامة الدولة، بل القضاء عليها يؤدي إلى ضياعهما معاً".