الفيسبوك بين الحلم واليقظة

2020.07.07 | 00:10 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

استيقظت صباحاً بعد نوم عميق وهادئ، وبعد الحمام البارد السريع، شربت قهوتي التي تخلو من الحليب، وجلست أتابع الأخبار كعادتي كل صباح على شاشة الحاسوب بصرياً وعلى الإذاعة المحلية سمعياً. وبعد أن استعرضت عناوين الصباح التي رغم خلوها عموماً من الأخبار الإيجابية، إلا أنها خلت اليوم من السلبيات المفعمة برائحة الموت والدمار والمرض والأوبئة كما جرت عليه العادة في الأيام القليلة الماضية. فاستبشرت خيراً بتغيير ولو نسبي في نسبة السلبية التي تحملها لنا الأيام يوماً بعد يوم في مجتمع الاستهلاك الإخباري والحسي واللا حسي.

انصرفت بعدها إلى وسائل التواصل الاجتماعي متحسّباً قلقاً من أجواء الشتم والتخوين والتكفير والكذب التي غلبت في الآونة الأخيرة على صفحاتها. واخترت أن يحط بي الرحال على صفحات الأشهر من أصدقائي وممن يحوزون، حتى إن هم عطسوا، على مئات المعجبين والمعجبات. فقرأت المحبة والوئام، وقرأت تحليلات سياسية قصيرة ولكن بناءة، وقرأت تعليقات توضيحية لمن غاب عنه تفصيل ما، وقرأت اعتذارات عن أخطاء سبق وأوردها أصحاب تعليقات الأمس وسماحة مدهشة من قبل من رفضوها بداية وأشاروا إلى انحرافها عن الصراط المستقيم. هذا الصراط الذي صار لكل ممارس للفسبكة أن يحدده كما تحدد أجهزة الأمن في دول الاستبداد مدى ارتفاع سقف الوطن ومدى التزام الرعايا بالعمل تحت هذا السقف "الواطي" وإلا الويل والثبور.

لم أقرأ إذاً أيضاً صباح اليوم أحدهم يستهل صباحه، وقبل قهوته المرة، بانتقاد شاعر يكتب في صحيفة تمولها دولة لا تحلو لصاحب المرارة في القهوة وفي الكلام. فمن نافل القول بأن من يعمل لدى مؤسسة، يقبض من أموالها، لأنه إن قبض من أموال مؤسسة لا يعمل فيها وهو في مؤسسته الأم، فسيكون الأمر غريباً بعض الشيء. ولكن يبدو أن أصحاب المرارة في القول وفي النظر وفي الفعل، يحبون تحويل الواقع الى تهمة. وحسناً أنني لم أقرأ شيئاً كهذا بعد.

لم أقرأ أيضاً صاحبة الحساب ذا الاسم الوهمي والتي تقذف أعراض من عارضها، كما وتستخدم السوقي من الكلام لتوضيح اختلافها بالرأي مع الآخرين. ويبدو أن الناس عرفت بأن الاختلاف في الرأي مع شخص حتى لو وصل إلى الكراهية والحقد، فهو لا يمكن أن يحمل النابي من الكلام والإيحاءات الجنسية المبتذلة إلا إن كان مطلقه يتعالج نفسياً لدى أخصائيين مهرة. وحسناً أنني لم أقرأ مثل هذا الانحراف اللفظي والعقلي بعد.

لم أقرأ أيضاً قومياً لا يعتّز بانتمائه إلا إذا شتم انتماءات الآخرين، ولا يشعر بفخره الوطني إلا إن أقصى مكونات أخرى مختلفة عن مكونه لها في ذات الوطن ما له فيه. وحسناً أنني لم أقع على هذا التقوقع الشوفيني بعد.

لم أقرأً أيضاً رجل دين يوزّع مفاتيح الجنة حسبما يرتئي على من يعجبه ويحجبها مع إعطاء ركلة نحو جهنم إلى من لم يعجبه. فرجال الدين أو من يلوذ بهم اكتفوا اليوم بإيراد المواعظ الأخلاقية والتي تدعو المؤمنين إلى العمل والابتعاد عن الكذب وترشدهم إلى تبني الأخلاق الحميدة التي هي الترجمة الحقيقية للإيمان. وحسناً أنني لم أقع على داعشي متفسبك أو من يتستر بالفسبكة ليخرج القيء الظلامي من فيه.

ثم أنني لم أقرأ البتة مع قهوة الصباح علمانوياً عصابياً متعصباً إلى حد الهلوسة يشتم كل من آمن بربه وكفى العباد شره. لم أقرأه يُحرّض المؤمنين بالتعرض إلى مقدساتهم برخص وخفة وثقل دم ملؤه مزيج من أمراض الإقصاء والجهل وادعاء التنوير.

لم أقرأ مع ساعات الصباح الأولى "ناشطاً" "ثورياً" يشتم جهة أو هيئة أو مؤسسة مورداً باقة من الاتهامات بالفساد وبالمحاباة وبسوء الإدارة وبالعلاقات المشبوهة، لنكتشف أخيراً بأن حنقه متأتٍ من عدم قبول طلب توظيفه في إحدى هذه المؤسسات.

كما أنني لم أقرأ صباحاً "صحفياً مواطناً" اكتشف العجلة في مهنة الصحافة منذ أيام فصار كل من مارسها من سواه نكرة، يكتب استقصاءات صحفية عصماء مبنية على الإشاعات والقيل والقال ويتعامل مع الآخرين بعقلية المساعد جميل في طرح الأسئلة وتوقع الأجوبة.

وغاب عني أن اقرأ سياسياً عريقاً مخضرماً يروي بأن زعيماً دولياً كان قد خصّه بقنبلة سياسية مدوية لن يفصح عن مكنوناتها لأنه سيحتفظ بها مفاجأة لجمهوره الذي سيزيد ترقّبه واستعداده للاحتفال بوهم الزعيم.

وغاب عني أن أقرأ موالياً للاستبداد وللمستبدين، متصدياً لإثارة ملف صور قيصر ونشرها، متعمّداً الإشارة إلى أنها مفبركة من قبل أجهزة مغرضة في أقبية الظلام وحيث تُحاك المؤامرات على قيادته الحكيمة الفذّة والتي هرب هو نفسه من شرورها إلى شمال القارة الأميركية ولكنه يحنّ إلى ركلاتها وصفعاتها، فهو في عمق قناعاته منتمٍ إليها ولكنه يفضل مناخ الشمال الكندي عن جفاف المناخ الحلبي.

أنهيت قهوة الصباح متفائلاً بيومٍ مختلف عن باقي الأيام، موجاته إيجابية منذ ساعاته الأولى، وناسه لم يسقطوا من أسرّتهم على رؤوسهم بل هم استيقظوا بهدوء مثلي وشربوا قهوتهم اللذيذة مثلي.

وسط هذا الانسجام والراحة استيقظت على جرس الهاتف يرن بإلحاح، فأجبت ليستغرب صوت صديقي نومي حتى الآن. وقال لي: افتح الفيسبوك لترى العجب العجاب. فاكتشفت حينها بأن كل ما مر معي كان أضغاث أحلام.