الفقيه الدستوري يفترس الدستور

2021.07.28 | 06:28 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

كلنا يعلم القصة المشهورة في زمن الوثنية عن صنّاع آلهة التمر وكيف كان الناس يشترونها لتعبدها وعندما يجوعون يلتهمونها... هكذا أيضا فعل الرئيس والفقيه الدستوري قيس سعيد عندما أعلن قراراته مساء أمس بتعطيل البرلمان وتعليق أعماله ونزع الحصانة عن أعضائه وبحل الحكومة والاستحواذ على كافة الصلاحيات والسلطات بحجة الظروف الاستثنائية التي تقتضي منه اتخاذ إجراءات لحماية الدولة والشعب التونسيين (!) واستند في ذلك لنص الفصل 80 من الدستور التونسي الذي ينص على ما يلي:

"لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويُعلِنُ عن التدابير في بيان إلى الشعب.

ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حلّ مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة.

وبعد مُضيّ ثلاثين يومًا على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يُعهَد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتُّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه. وتصرح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يومًا.

الفصل 80 من الدستور التونسي هو أصلا جاء ليكون استجابة لما قد يطرأ من ظروف استثنائية توجب على الرئيس اتخاذ إجراءات استثنائية لمعالجتها

ويُنهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها. ويوجه رئيس الجمهورية بيانًا في ذلك إلى الشعب".

ولعل مراجعة متأنية لما ورد أعلاه ومطابقتها مع مضامين القرارات التي اتخذها الرئيس الفقيه الدستوري تقودنا بالضرورة لخلاصة مفادها أن الرئيس توسع أكثر مما ينبغي في تأويل النص بل والتجاوز عليه.

فالفصل 80 من الدستور التونسي هو أصلا جاء ليكون استجابة لما قد يطرأ من ظروف استثنائية توجب على الرئيس اتخاذ إجراءات استثنائية لمعالجتها، لكنه يحدد الإجراءات الاستثنائية التي يمكن للرئيس اتخاذها بشكل شديد التحديد وشديد الوضوح.. وبالتالي فإن التأويل الذي لجأ إليه الرئيس التونسي - وهو الخبير الدستوري (!) - فيه افتئات على النص وتجاوز عليه وتوظيف غير محايد ولا موضوعي له.

وإن القول إن ثمة ظرفاً استثنائياً يوجب ذلك هو قول مردود دستوريا لأن الفصل 80 نفسه هو الذي حدد الإجراءات الاستثنائية الممكن اتباعها لمواجهة الظرف الاستثنائي ولا يجوز والحال كذلك الشطط في تفسير النص وتأويله، كما لا يجوز الاتكاء على مفهوم (الحالة الاستثنائية) لاستباحة الدستور والمؤسسات، لأن ذلك يمهد السبل للتأسيس لدولة سلطوية ويسقط هيبة الدستور وحصانته من الاستباحة ويمهد الطريق لاستدامة خرقه وامتهانه تحت زعم (الظروف الاستثنائية) وهو الزعم الذي طالما توكأت عليه كل الديكتاتوريات العربية.

كل القرارات التي اتخذها الرئيس والمنوط بها احترام الدستور وحمايته تعج بالمخالفات الدستورية

 كما أن الرئيس باتخاذه قرارا بتجميد البرلمان أو تعليق أعماله وإسقاط الحصانة البرلمانية عن أعضائه ارتكب مخالفة دستورية جسيمة لأنه وإن كان يملك بموجب الفصل 77 من الدستور الحق في حل البرلمان ضمن شروط محددة وردت في النص على سبيل الحصر، فإنه لا يوجد في الدستور التونسي أي نص يقول بتجميد البرلمان أو تعليق أعماله، وحتى لو وجد فإن تعليق أعمال البرلمان لا يمنح الرئيس الحق بإسقاط الحصانة البرلمانية عن أعضائه لأن التجميد أو تعليق الأعمال لا يلغي عضويتهم ولكن يؤجل عملها والحصانة تبقى لصيقة العضوية لا تسقط إلا بانتهائها.

والحقيقة أن كل القرارات التي اتخذها الرئيس والمنوط بها احترام الدستور وحمايته تعج بالمخالفات الدستورية وهو ما لم يكن متوقعا أو منتظرا من رئيس يحمل صفة الأستاذ الجامعي والفقيه الدستوري.. وهو بذلك لا يشبه إلا ذلك الصانع الذي يصنع آلهة التمر ليعبدها لكنه سرعان ما يلتهمها عند أول عضة جوع في معدته.. ويبدو أن الرئيس قيس سعيد عضه جوع السلطة فالتهم الدستور.