الفرع الأمني ت ع س

2023.07.28 | 05:11 دمشق

آخر تحديث: 28.07.2023 | 05:11 دمشق

الفرع الأمني ت ع س
+A
حجم الخط
-A

احتفل التلفزيون "العربي السوري" منذ يومين بالذكرى الثالثة والستين على تأسيسه، وحشد لتلك الاحتفالية مجموعة من الموظفين والإداريين والكوادر الإعلامية، فضلاً عن مجموعة من الفنانين والفنيين والكتاب والشخصيات العامة.

وانصب جوهر الاحتفال على التغزل بإنجازات التلفزيون والعاملين فيه وبالتضحيات التي قدموها وبـ "شهدائه" الذين قدموا أرواحهم على مذبح الحقيقة وفداء للحقيقة ودفاعاً عنها أثناء "الحرب الكونية" على سوريا.

وإذا تأملنا الصيغ التي تم اعتمادها في الاحتفالية، فسوف تستوقفنا مجموعة من النقاط التي لا يمكن العبور عليها، حيث افترض القائمون على الاحتفالية أنهم يخاطبون من خلالها مجتمعاً متواطئاً مع روايتهم ومتجانساً مع رؤيتهم فقط.

أهم تلك النقاط وأكثرها تناقضاً مع واقع هذه المؤسسة، هي إطلاق صفة "العربي" على التلفزيون الذي أجّر نفسه لصالح الروس والإيرانيين، فخرج تماماً عن أي مسار عربي حينما أصبح الناطق الرسمي باسم بوتين وخامنئي. نقطة التناقض الأخرى هي وصف التلفزيون بأنه "سوري"، ما يفتح سلسلة من الأسئلة البديهية: أي فئة من السوريين يتوجه إليها ذلك التلفزيون؟ هل يخاطب السوريين في المناطق الخاضعة لسلطة تركيا، أم أولئك الخاضعين لسلطة قسد وأميركا أم للسوريين الخاضعين لسلطة الجولاني؟ أم يخاطب سوريي المخيمات، أم سوريي المغتربات والمنافي ودول اللجوء؟ أم الخاضعين لسلطة الأمر الواقع ولميليشيات إيران وحزب الله أم لميليشيات فاغنر ومشغلهم الروسي؟ وكيف يمكن لجهة إعلامية أن تخاطب كل تلك الفئات على ما فيها من تناقض، وتدعي أنها جهة إعلامية عربية وسورية؟

يعرف كل السوريين الخاضعين لسلطة العصابة الحاكمة أن مهمة شاشتهم "الوطنية" لا تعدو عن صناعة الكذب ونشره، لا أحد منهم يصدق ما تبثه تلك الشاشة أو يثق به، بمن فيهم العاملون في التلفزيون

ركز النظام أيضاً في احتفاليته على وصف التلفزيون التابع له "بالشاشة الوطنية"، فهل يكفي أن يتوجه الخطاب الإعلامي إلى حفنة من المؤيدين والأبواق والتشبيح ليكون إعلاماً وطنياً؟

يعرف كل السوريين الخاضعين لسلطة العصابة الحاكمة أن مهمة شاشتهم "الوطنية" لا تعدو عن صناعة الكذب ونشره، لا أحد منهم يصدق ما تبثه تلك الشاشة أو يثق به، بمن فيهم العاملون في التلفزيون والقائمون على صناعة برامجه الذين يعون جيداً أنهم يكذبون، ويعون أن جمهورهم يعرف أنهم يكذبون، ولكنهم لا يتوقفون عن الكذب لأنهم لا يملكون بضاعة أخرى غيره لبيعها لجمهورهم.

فضلاً عن ذلك كله فإن كل هموم السوريين وشواغلهم ومشكلاتهم -بمن فيهم المتجانسون-،لا تجد صدى لها على الشاشة "الوطنية"، في حين لا يتردد هؤلاء المتجانسون في مديح سيد الوطن على ذات الشاشة التي تتجاهل همومهم ومعاناتهم ولا تلقي لهم بالاً، فتلك الشاشة الوطنية محجوزة ومخصصة بشكل أساسي لتمجيد الرئيس ومديحه وتمجيد جيشه وحلفائه، مؤسسة كاملة بميزانية ضخمة واستهلاك كبير للكهرباء التي يحرم منها المواطنون، آلاف الموظفين والكوادر البشرية المتنوعة من مخرجين ومعدين ومذيعين وإداريين وفنيين وخدميين وغيرهم من التخصصات، لا عمل لهم إلا تكريس وجود الأسد وتلميع صورته وتبرير إجرامه وتحويله إلى بطولة.

لا يتوقف تمجيد الأسد على البرامج السياسية وحدها، حيث لا بد لكل البرامج الأخرى أن يكون لها إسهامها في ذلك التمجيد حتى وإن كانت برامج ثقافية أو اجتماعية، ولا تخلو البرامج الطبية وبرامج الطبخ في كثير من الأحيان من مديح الرئيس، الأمر الذي يكشف عن هوية تلك الشاشة وحقيقة انتمائها وأهدافها التي لا تخفى على أي متابع.

أيّ "عربي" وأي "سوري" هو ذلك التلفزيون الذي يضع الرئيس فوق الوطن ويروج لتسمية "سيد الوطن" وكأنها حقيقة بدهية، في حين تكفي تلك التسمية لتكون دليلاً على الهدف الأعلى لوجود ذلك المبنى، فتسمية "سيد الوطن" تلخص التوجه المضاد لمفهوم الوطنية الذي يتبعه إعلام النظام والمنافي تماماً لمفهوم الوطن.

شهد زمن السلم مساحة لبعض البرامج الثقافية والاجتماعية التي تألقت رغم خضوعها للرقابة الشديدة لضمان خلوها من أية إشارات أو تلميحات قد تزعج الأسد، ولكن مع بداية انطلاق الاحتجاجات في عام ٢٠١١، نزع التلفزيون قناع الإعلام، ليظهر على حقيقته كفرع أمني يدار من قبل المخابرات، ويتعاون العاملون فيه مع المخابرات طوعاً أو إكراهاً، ويرتضون العمل كمأجورين لترويج رواية النظام على حساب الحقيقة التي يعرفونها جيداً ويعرفون أكثر أنهم يقومون بتزييفها وتشويهها وفقاً لمصالحهم المحسوبة، أو حماية لأنفسهم من بطش العصابة.

البرامج السياسية في التلفزيون "العربي السوري" مخصصة إذن لتمجيد الرئيس وحلفائه، أما كل ما عداها فهي مجرد حشو، برامج يصنعها المعتاشون من أصحاب الوساطات والذين لا تربطهم بالعمل الإعلامي أية رابطة، برامج تسعى لترويج التفاهة، ومسخ العقول وتسفيه القيم، وكل ذلك من أجل خلق جمهور مستعد لقبول الأسد كسيد للوطن.

أما شهداء الإعلام التابعون للنظام، فهم أيضاً من شهود الزور الذين كانوا يعتقدون أنهم محميون بقوة النظام، ولو أنهم استشعروا خطراً أثناء تغطيتهم لبعض الأحداث التي قتلوا فيها لما ترددوا بالهرب أو تقديم أي ذريعة تجعلهم في حلٍ من تنفيذ تلك المهمات "الإعلامية"، وبالتالي لم يكن "استشهادهم" نتيجة إيمانهم بقضية ما والدفاع عنها.

وفي حين يسخر المواطنون السوريون بمن فيهم الموالون من تلفزيون النظام، لا يتردد القائمون على التلفزيون بالاحتفال بعيد ميلاده الثالث والستين ويصفون ذلك الإعلام -المشهود له بالكذب في كل شيء- بأنه من أفضل وسائل الإعلام وأكثرها تطوراً على مستوى العالم.

اللافت في هذا السياق أن الجمهور الذي يستهدفه تلفزيون الأسد، لا يتاح له متابعة برامجه بسبب الانقطاع المتواصل للكهرباء، أما الجمهور السوري العريض الخارج عن سيطرة الأسد فلا يمكن أن يتابع برامج ذلك التلفزيون إلا من أجل السخرية والتندر والاطلاع على أحدث التلفيقات التي تتم صناعتها داخل ذلك المبنى.

يبدو التلفزيون "العربي السوري" أحد أهم وأخطر المقار الأمنية الرديفة الذي اعتُمد منذ بداية انطلاق الاحتجاجات كواجهة إعلامية مهمتها قلب الحقائق وتزييف الوقائع وتبرير الجرائم وغسيلها وإظهارها على أنها فعل بطولي

اللافت أيضاً أنه رغم الأزمات الاقتصادية الخانقة التي تمر بها سوريا، إلا أن ذلك كله لم يؤثر على ميزانية التلفزيون، المرتبطة بشكل وثيق بميزانية أجهزة الأمن، فرغم حالة الموات التام التي تشهدها كل القطاعات وبقايا المؤسسات في سوريا الأسد، إلا أن الأجهزة الأمنية لم يتأثر نشاطها وحركتها وما تزال تتمتع بالرسوخ والحيوية والنشاط والتطور المستمر والدعم المالي اللامحدود والرفاهية المتعيشة على ناتج الأزمات العميقة، لم تتأثر ميزانية المخابرات بالحرب والعقوبات ولا انهيار الليرة ولا الحرائق ولا الزلازل ولا حتى المؤامرة الكونية، بل ازدادت انتعاشاً في ظل انهيار كل المؤسسات الأخرى المرتبطة مباشرة بحياة المواطن وقوت يومه ومصلحة الوطن، كالقطاع الاقتصادي والثقافي والسياحي والخدمي.

في هذا السياق، يبدو التلفزيون "العربي السوري" أحد أهم وأخطر المقار الأمنية الرديفة الذي اعتُمد منذ بداية انطلاق الاحتجاجات كواجهة إعلامية مهمتها قلب الحقائق وتزييف الوقائع وتبرير الجرائم وغسيلها وإظهارها على أنها فعل بطولي.

ومع كل العار الذي ألحقه التلفزيون السوري بسمعته، وتحوله بالمطلق إلى ملكية خاصة للأسد، لا يتردد المحتفلون في التباهي بإنجازاتهم، والتي لا يمكن تلخيصها إلا بالكذب والفبركة والمديح والتبجيل والتخوين، فضلاً عن الاعترافات المتلفزة التي كانت تتم تحت تهديد السلاح، أو تلك التي لا تخرج عن إطار التمثيليات المكشوفة والتي كانت بمثابة فضائح مدوية، ولكنها لم تمنع النظام من الاستمرار في ذات التوجه نظراً لقدراته ومهاراته العالية في فن الصفاقة والتماهي مع الفضيحة.

النظام السوري الذي لم يتوان عن تسمية أحد فروعه الأمنية باسم "فرع فلسطين"، -رغم ادعائه بأن فلسطين هي قضيته المركزية-، لن يتوانى عن تحويل التلفزيون إلى فرع أمني أيضاً، ولربما كان ذلك وحده سبب إصراره على إلحاق كلمتي: "العربي السوري" على كلمة "التلفزيون"، ليتسنى له التطابق مع شيفرة الفرع المتداولة بين الأجهزة الأمنية، وهي فرع: ت ع س، أي فرع التلفزيون العربي السوري.