العرب بين صدمتي الاحتلال والإحلال -هل يحق للتابع أن يتكلم؟

2024.03.20 | 04:58 دمشق

العرب بين صدمتي الاحتلال والإحلال -هل يحق للتابع أن يتكلم؟
+A
حجم الخط
-A

لعل ما يسمى صدمة الحضارة أحدث أثرا لا يغفله أحد في شتى التغيرات الحضارية الجذرية التي اجتاحت العالم، وصدمة الحضارة مقولة تنطبق على الشعوب التي انتقلت بين جيل وآخر لتجد نفسها في حال مختلف عن سابقه ويسير باتجاه لا مجال لتداركه سوى بالاعتياد وتغير الأجيال ضمن أوطانها، مأخوذا بشعور الانتماء إلى الأكثرية والحشد والقطيع والمجتمع الواسع؛ الذي نظر له في فكر الجماعات والأفراد أوروبيا، غير أن ما نقصده بالصدمة في المجال العربي هو تلك الهزة التي نجمت عن لقاء حضارتين؛ واحدة قارة ساكنة لظروف موضوعية خاصة بها؛ وأخرى متحولة متقدمة عليها لظروف موضوعية أيضا، بين مستويي إنجاز حضاري في مجالات المعرفة والتطور السياسي والاقتصادي والعلمي، ولكنها- الصدمة- بدت قوية لدرجة أنها وفدت على عالم الأولى واجتاحته بالقوة وفرضت سيطرتها لأجل تأمين المواد التشغيلية اللازمة لتطور اقتصادها وصناعتها، ولجعل الحضارة الأولى سوقا لمنتجاتها أيضا، وهو ما شكل خلطا بين صدمة الحضارة ومقولة صدام الحضارات التي تبدو أكثر دقة في وصف ما حدث، عبر الحداثة القادمة على حامل كولونيالي وصارت جزءا من حالة اصطدام خلطت بين محاولة استيعاب الجديد والفعل فيه، مقاومته، وبين الانغمار به؛ أو الخضوع له أو تقليده. تشكل عبر ذلك أنساق ونزعات وتيارات؛ اختلط على المراقب معرفة أي منها كان أداة للمشروع الكولونيالي، وأي منها يمثل رغبة نقية في التحديث مع جهل بوسائل العمل ومناهجه، وبين مضاد له، ليصار في النهاية إلى تأطير العرب والمسلمين في المجال التداولي النخبوي العربي بصورة جذرية وجوهرانية؛ وقرنهم بالتخلف والعجز والعطالة الذاتية؛ بما يتفق تماما وتلك الصورة النمطية المنحوتة تاريخيا في الفكر الغربي عن الشرق والإسلام.

عملت قوى الاستعمار على زعزعة مصر وإغراقها بالديون، وزعزعة حكم نجله إبراهيم باشا في سوريا لئلا يصبح دولة قوية في المنطقة وانتهت باحتلالها

كانت الصدمة في عالمنا العربي الذي خضع قسرا لهذا الاحتلال؛ متعلقة بالفارق الحضاري الهائل، وبالأدوات والسلطة والعمل والإدارة، وفي سوية المشاريع التي بدت متطورة أكثر من سابقاتها أيام اقتصاد الدولة العثمانية القديم، حتى أعلن أبناؤها بجدوى عمل سلطات الاحتلال، إذ جلبت العمال ليحفروا وينجزوا المشاريع التي تخدم استغلال البلاد اقتصاديا؛ من خلال أجر لم تكن تدفعه الدولة العثمانية عبر السخرة التي تفرضها، ورغم أن الدولة العثمانية لم تكن احتلالا تبدو المقارنة بين نظامين للإدارة مع اختلاف هائل بين السلطتين وغايات كل منهما تم إغفاله عمدا تحت سطوة الهيمنة وأدواتها، في خضم ذلك وفدت أيضا الآلة الطابعة وأدوات علمية كثيرة، فمثل ذلك نقلة في عالم الكتب والصحافة والتعليم؛ وبالطبع لم يكن ذلك مستقلا ولا إنسانيا ولا جزءا من محاولة التحديث بل محاولة من قبل الاحتلال الإنكليزي والفرنسي  على الانتقال إلى نمط أكثر جدوى في مستعمراته، غير أن ملاحظة ماثلة أمام أعيننا باتت تشكل سردية قارة ومكرسة وهي وصم العالم العربي والإسلامي -سواء الدولة العثمانية- أو مصر في عهد محمد علي، بأنها متخلفة وهشة لدرجة يخيل للمرء أنها عاشت عصر انحطاط، في حين يظهر حشر هذا المفهوم قسرا في مسلَّماتنا، وعدم تحققه؛ فمظاهره وأسسه وفترته لم تكن موجودا في المجال الإمبراطوري العثماني، بل حتى إن حل قوة الانكشارية، ومأسسة الجيش، وإنجاز شبكات السكك الحديدية وصناعات الأسلحة والزراعة بدأت، والتحديث السياسي عبر تغيير مجلس المبعوثان وتشكل الأحزاب تؤكد تحديثا تم الإجهاز عليه، واللحظة التاريخية من عمر الإمبراطورية كان في انحدار كسائر دورات حياة الدول والإمبراطوريات؛ واتفق ذلك مع ذروة قوة ناهضة لدى دول معادية؛ لها مشاريعها في المنطقة منذ الحروب الصليبية حتى الآن، ليس أدل على ذلك من لعب القوى الاستعمارية دورا في إضعاف مصر- محمد علي الذي ظهرت قوته قبالة العثمانيين بسبب موجة التحديث الواسعة التي قوت مركز مصر وإمكاناتها، والتي غابت عن قراءات جلادي الإمكان الحداثي العربي، فعملت قوى الاستعمار على زعزعة مصر وإغراقها بالديون، وزعزعة حكم نجله إبراهيم باشا في سوريا لئلا يصبح دولة قوية في المنطقة وانتهت باحتلالها، وتحت سلطة الوصاية والانتداب تم الاشتغال على مجالس نيابية أحرجت سلطات الاستعمار، وتطورت شيئا فشيئا حتى أنجزت برلماناتها الحرة والطموحة، وسرعان ما سقطت تحت بساطير العسكر، العسكر الذين لم يحضروا في عالم أكثر مما ظهروا وسيطروا في الدول المستعمَرة في الشرق -آسيا، والجنوب- إفريقيا؛ وكأن سلطة ترعى وجودهم وربطهم بها حتى الآن.

ثقافيا اطلع المتعلمون والمثقفون على المنجز العلمي والحضاري لهذا الغرب؛ واغتروا به؛ وحاولوا الاحتذاء به أو تقليده؛ فنجحوا في التعليم والدراسة؛ ونجحت نخب اجتماعية وسياسية في محاولة إنجاز برلمانات سرعان ما أسقطها العسكر لتختزل الدولة بالسلطة، في شكل يخدم مصالح الدول التي خرجت من مستعمراتها وتركت وكلاءها، مع الإبقاء على سؤال تحت الرماد بين سائر البنى الاجتماعية ماقبل الوطنية المكرسة ( قبيلة، طائفة، مذهب، عرقية) من جهة، ومن جهة ثانية الإبقاء على سؤال التحديث بين النخب بما لا يمس الأنظمة الوظيفية التي تتحمل مهمة تحديث الاقتصاد والسياسة والثقافة فيما لو ادعت خروجها عن النمط الوظيفي الخادم. وسرعان ما اغتر البعض في الانخراط بمشروع نقض القديم وادعاء القدرة على المواكبة بآليات وأدوات لم يجد حَمَلتُها القدرة على فك شفرات العمل المجتمعي، والتطور والانطلاق من البنى الاجتماعية المكرسة لتكون عقبة أمام أي شكل متطور للدولة، وهنا صرنا أمام صدمة أشخاص ونخب مستقبِلين في بيئاتهم، استنفروا لتغيير لم يعتمد أدوات التطور، بل التماهي أو القفز لإنجاز تقليد جديد تجلت في القوالب الجاهزة من ماركسية وغيرها.

هناك ترويجا كبيرا لتغريب هائل، بأحكام ثقافوية ومعيارية، وكأن ثورة ما حصلت على المستوى العالمي؛ وعلينا أن نلحق بها ونحن لم ننجز الدولة

الصدمة الثانية تمثلت عبر مجتمع الهجرة لدى مهجري ثورات الربيع العربي؛ ومثلت اتجاها هوياتيا جديدا حتى يتساءل الفرد ما الذي جرى غربيا ليتصدر المشهد وتشتعل النار في الشعارات الكثيرة في مرحلة تبدو مفصلية أيضا وجديدة؟ وبعيدا عن تغير عالمي في مستوى تقنيات الإنترنت ووسائل التواصل؛ نجد أن هناك ترويجا كبيرا لتغريب هائل، بأحكام ثقافوية ومعيارية، وكأن ثورة ما حصلت على المستوى العالمي؛ وعلينا أن نلحق بها ونحن لم ننجز الدولة، ودخلنا قوقعة جلد الماضي واختراع إيديولوجيات جديدة تحت شعار نقض الإيديولوجيا، وإدخال مجتمعاتنا في حروب الثنائيات، ثم التنظير لثورة ثالثة في حين لم ننجز الأولى في بنياتنا الاجتماعية وثقافاتنا، وعماد هذه الأخيرة مغتربون لم يجدوا واقعا يقوَّم أو يتشابك مع طرحهم في حين كانت الأولى رغم اغترابها محاطة بواقع واضح ومنابذ أيضا لكنه متفاعل وحي.

هل يحق للتابع أن يتكلم؟ طرحت أنثروبولوجية هندية عبر سؤالها هذا عجز شعوب المستعمرات عن التعبير عن أنفسهم في عالم الهيمنة وحولتها إلى هوامش، باعتبار أن جزءا كبيرا من مثقفي التغريب صاروا يتوهمون أنهم جزء من الحضارة الغربية، وأنهم ينتمون إلى الهوية الإنسانية، وإذا تم اعتبارهم كذلك وفقا لنظرتهم لأنفسهم، مع توهمهم أنهم حملة مشاعل تنوير ووصاية رسالية لا يبزها أحد، نجد مجالا غريبا وأدوات غريبة عن سائر مجالات مجتمعاتنا المستهدفة، رغم امتلاكهم أو استحواذهم على أغلب وسائط الثقافة ومراكز الإعلام والدراسات، ليصار إلى تشكيل ثقافة مغايرة لأصول ورافد الثقافة المشرقية -دين عروبة إسلام ومسيحية مشرقية أيضا-، تم التغول على المتون وإزاحة الشعوب إلى الهوامش من قبل نخب معزولة عنها، في الفعل الثقافي والسياسي الظاهر؛ و حُيِّدَت عبر احتكار المنابر وتكريس فعاليات تغريبية؛ من حيث موقعها الجغرافي أصلا خارج أوطانها ودوائر شعوبها، ومن حيث قابليتها للتذويب، وتوهمها القدرة على إحلال ثقافة وافدة بعيدا عن أي قدر من التوافق مع ذهنيات المشرق وثقافته أو تبيئتها، تلك التي تنطلق من مبادئ تميز هوياتها وثقافاتها في مستوى هدف العيش الإنساني وغاياته، بما لا يتسق وحضارة الغرب المادية التي ترى نفسها ذاتا مركزية؛ وصورة أعلى للمنجز الحضاري الإنساني وترغب بتماهي الجميع معها، وهي التي تسقط في أول رصاصة صهيونية على طفل في فلسطين.