منذ أن انتهت الانتخابات البرلمانية العراقية التي أقيمت في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2021 والبلاد تدور في دوامة التناحر السياسي والأمني، وكأننا أمام مرحلة غامضة جديدة غير واضحة المعالم.
وقد تنوعت الخلافات السياسية فمرّة، وهي الأعمق والأشد، تكون داخل البيت (الشيعي)، وأخرى تتمثل بخلافات (سنية – شيعية)، و(شيعية – كردية)، و(كردية – كردية)، وجميعها خلافات غير منتهية حتى الساعة، ومع ذلك الذي يعنينا هنا هو الخلافات (الشيعية – الشيعية) لأنها الأشد والأهم والأخطر.
واليوم لا يُذكر الخلاف (الشيعي – الشيعي) إلا ويذهب الفكر مباشرة نحو منصتين بارزتين للخلاف:
المنصة الأولى، وهي الأقوى شعبيا وسياسيا، وتتمثل بالتيار الصدري، بزعامة رجل الدين (الشيعي) مقتدى الصدر، الذي ورث مكانة والده محمد صادق الصدر الذي اغتيل نهاية تسعينيات القرن الماضي.
ويتحكم الصدر اليوم بغالبية الشارع (الشيعي) العراقي، وقد حصل في الانتخابات الأخيرة على 73 مقعداً قبل أن يُقرر ترك البرلمان، وممارسة العمل السياسي عن بُعْد، وهو يحاول الآن أن يملي شروطه على القوى الأخرى عبر الجماهير والمظاهرات والاعتصامات، وبالذات بعد أن أخفق في فرض شروطه على الكتل السياسية، وبالذات (الشيعية) منها، بعد فوزه بالمركز الأول في الانتخابات البرلمانية!
وقد سيطر أتباع الصدر، ومنذ أكثر من شهر، على بناية البرلمان العراقي، وبعدها أمرهم الصدر بترك البرلمان، والاستقرار داخل المنطقة الخضراء، ومن يومها نجحوا في تعطيل عمل البرلمان، وتمكنوا من شلّ حركة العمل السياسي داخل الخضراء التي تضم في أروقتها أهم دوائر الدولة المدنية والعسكرية فضلا عن سفارات العديد من دول العالم وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية.
برزت الخلافات بين الفريقين في الأروقة السياسية والإعلام وبدرجة لا يمكن السيطرة عليها منذ الأسابيع الأولى التي تلت الانتخابات البرلمانية
وقد لاحظنا أن خطاب الصدر خلال الأشهر الأخيرة بقي خطابا تصعيدا على الرغم من الآراء التي تشير إلى احتمالية تراجع الصدر عن موقفه بأي لحظة.
والمنصة (الشيعية) الأخرى يمثلها الإطار التنسيقي بقيادة نوري المالكي، وهذه تضم العديد من القوى الفاعلة، ومنها منظمة بدر برئاسة هادي العامري، وزعيم تيار الحكمة عمار الحكيم ورئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي وغيرهم من الكيانات والشخصيات المتنوعة.
وقد برزت الخلافات بين الفريقين في الأروقة السياسية والإعلام وبدرجة لا يمكن السيطرة عليها منذ الأسابيع الأولى التي تلت الانتخابات البرلمانية، ومع ذلك فهنالك بعض المحاولات والمبادرات لترطيب الأجواء بينهما، وهنالك الآن مبادرات من خارج التيار الصدري لتحقيق هذه المهمة.
المبادرة الأبرز حملها هادي العامري إلى الكرد والسنة وهو يحاول منذ أسبوعين اللقاء مع الصدر، ولكن يبدو أن اللقاء بين الرجلين أصبح من الماضي على الرغم من الأجواء غير المتشنجة أصلا بين العامري والصدر!
وحالياً هنالك تسريبات تؤكد أنَّ الحديث عن لقاء يجمع الصدر مع العامري بات من الماضي في ظل المتغيرات الحالية!
وقد تكون مبادرة العامري من أهم المبادرات كونها تأتي من أحد الأطراف الفاعلة في الأزمة (الإطار) والتي لم يكشف عن تفاصيلها رغم التسريبات التي تشير إلى أن المبادرة تهدف لكسب تأييد الكرد والسنّة وغيرهم من القوى غير (الشيعية) وأنها تركز على ضرورة الدفع باتجاه عودة مجلس النواب للانعقاد والمتوقف حاليا بسبب اعتصامات الصدريين داخل الخضراء!
أما الصدريون، من جانبهم، فيحاولون عبر تغريدات أو تعليمات أو تهديدات الصدر، أو عبر تغريدات ما يعرف باسم وزير الصدر (محمد صالح العراقي) أن يؤكدوا أنهم لن يتراجعوا عن مطالبهم، وأهمها حلّ البرلمان، والانتخابات البرلمانية المبكرة ومحاسبة الفاسدين وغير ذلك.
وقد بيّن التيار بأنهم أيضا قدموا مبادرة لحلّ الأزمة لكن يبدو أن مبادرتهم مختلفة وتتعلق بالإصلاح وكيفية معالجة الحالة غير النقية القائمة الآن!
وقد أعلن الصدر، السبت 20/ آب/ أغسطس 2022، أنهم قدموا مقترحا لبعثة الأمم المتحدة في العراق لجلسة حوار، بل ولمناظرة علنية وببث مباشر مع الفرقاء السياسيين أجمع لحلّ الأزمة، وأنهم لم يروا تجاوبا ملموسا منهم، وأن" الجواب عبر الوسطاء لم يتطرق للإصلاح ولا عن مطالب الثوار ولا ما يعانيه الشعب"!
وهذا يعني أن مبادرة التيار كتب لها الفشل على الرغم من الردود الإعلامية من بعض نواب الإطار الذين وافقوا على المناظرة العلنية، وبالمحصلة هذه ليست حلولا ناجعة!
ويعتقد زعماء الإطار أن حلّ البرلمان ليس قرارا هينا لأنه، وبدون خارطة طريق للمرحلة القادمة، سنذهب لمنزلقات خطيرة، وأن أغلب القوى تدرك أن حلّ البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة لا بدّ أن يسبقهما تشكيل حكومة جديدة!
وبالمقابل كانت هنالك دعوة لاجتماع وطني من رئيس حكومة تصريف الأعمال مصطفى الكاظمي، وقد عُقِد الاجتماع الأربعاء الماضي ولكن يبدو أنه لم يحسم أي خلاف، وخرج بنتائج هزيلة، وبالذات مع غياب الصدر أو من يمثله وكذلك بعد إعلان الصدر رفضه لنتائج الاجتماع، وقد وصفها بأنها "لا تسمن ولا تغني من جوع"، واتّهم أغلب الحضور بالسعي إلى "البقاء على الكرسي".
وقد أشار خطيب جمعة الصدر أمام مبنى البرلمان يوم 19/8/2022 أن "الحوارات السياسية لا نقيم لها وزناً"، وهذا يعني أن التيار قد أغلق كل أبواب الحوار مع المخالفين وبالذات بعد أن وجّه الصدر كتابا رسمياً لكل مكاتبه باعتماد شعار "عام التغيير" في المخاطبات والكتب الرسمية، وهذا يعني حسم الموضوع، وإصرار الصدر على التغيير بعيدا عن الحوارات!
ولم تتوقف المبادرات عند الجانب العربي، بل قدم الطرف الكردي، الفاعل في العملية السياسية، أكثر من مبادرة، وربما آخرها، مبادرة نيجرفان برزاني رئيس إقليم كردستان ودعوته للحوار الوطني في أربيل، وهذه المبادرة لم تحسم حتى اللحظة، ولم تعلن تفاصيلها، وبالمحصلة لم تعقد أي جلسة في أربيل، وربما في تقديري، أن الاجتماع الحاسم، إن أرادت القوى (الشيعية) التفاهم، سيكون في أربيل!
وضمن دوامة المبادرات لاحظنا أن النواب المستقلين سبق لهم أن قدموا مبادرة بداية حزيران/ يونيو الماضي، وتضمنت جملة من المقترحات من بينها التأكيد على ضرورة الالتزام بالاستحقاقات الدستورية بمراحلها كافة، ومنها تشكيل الحكومة، وتشكيل كتلة نيابية تضم النواب المستقلين، في حين دعت الكتل الأخرى إلى التكتل معها لتشكيل الكتلة الأكبر!
ولكن مبادرة المستقلين هي الأخرى لم تر النور، وبهذا صرنا أمام عشرات المبادرات منذ بداية العام الحالي وحتى الساعة وجميعها لم تنجح في ترطيب الأجواء بين القوى (الشيعية) المتناحرة.
يبقى القرار الأقوى، والملف الأبرز بيد التيار الصدري، وهو وحده القادر على ترتيب اللعبة العراقية بسبب جماهيريته الكبيرة وقدرته على تحريك الشارع!
وهكذا يظهر أن تمسك الصدر بمطالبه وشروطه أحرجت القوى (الشيعية) بالدرجة الأولى، وأربكت المشهد السياسي العام بالدرجة الثانية، وقد تشهد الأيام القادمة تطورات جديدة ومن بينها ذهاب الصدر لعصيان مدني ببغداد ومدن الجنوب!
وبعد فشل جميع هذه المبادرات، ومنها جلسة الحوار الوطني الذي دعا له الكاظمي لوحظ أن زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم سافر مباشرة إلى المملكة العربية السعودية مما فتح الباب على مصراعيه لاحتمالية أن تكون هنالك إمكانية لضغوطات سعودية، أو أجنبية، على الصدر لترطيب الأجواء مع القوى (الشيعية) الأخرى!
وبعيدا عن جميع هذه الاحتمالات يبقى القرار الأقوى، والملف الأبرز بيد التيار الصدري، وهو وحده القادر على ترتيب اللعبة العراقية بسبب جماهيريته الكبيرة وقدرته على تحريك الشارع!
فهل ستحسم المبادرات السياسية، السابقة والقادمة، الأزمة العراقية أم أننا مقبلون على أزمات كبيرة ومخيفة جديدة؟