"الشهابية".. عن زمان الطائفية في لبنان

2022.01.06 | 06:04 دمشق

010000.jpg
+A
حجم الخط
-A

دخل المارينز الأميركي إلى مطار بيروت وتقدم بهدوء من دون أي نوع من الاشتباكات نحو الميناء وحدود العاصمة، ثم تقدم باتجاه منزل السفير الأميركي والسفارة نفسها، كان قائد الجيش حينئذ فؤاد شهاب، يبذل جهودا مع زملائه ضباط الجيش اللبناني ليبقيهم هادئين، فقد شعر كثير من العسكريين أنهم أهينوا حين سمحوا لجيش غريب دخول عاصمتهم بلا قتال، وبقيت قوات المعارضة التي كان قسم منها على تخوم بيروت في مواقعها، من دون أن يصدر عنها أي مقاومة، فاقتصرت ردود فعلها على الصعيد الإعلامي وانفلتت منابرها عن موجة استنكار واسعة، أمّا شهاب فقد استطاع أن يضبط الجيش خلال المواجهات الشاملة التي اندلعت عقب اغتيال نسيب المتني، وأبعده عن مناصرة أي من الجهات المتقاتلة، فكسب معركة سياسية وضعته في الواجهة بسرعة كبيرة، وشكّل حلا وسطا لدى التيار العروبي، بوقوفه على الحياد في الحرب الداخلية، وقبله التيار المناصر للغرب لتساهله مع القوات الأميركية التي دخلت العاصمة، فاندفع بقوة إلى الواجهة ليجلس فورا على كرسي الرئاسة بعد خمسة عشر يوما من دخول المارينز فقط، وانتقل من قيادة الجيش إلى قيادة الأمة.

انحسرت المواجهات الكبيرة بعد انتخاب فؤاد شهاب واقتصرت على إشكالات ذات طبيعة فردية يقوم بها مجرمون عاديون كالسرقة أو الخطف والقتل

انحسرت المواجهات الكبيرة بعد انتخاب فؤاد شهاب، واقتصرت على إشكالات ذات طبيعة فردية يقوم بها مجرمون عاديون كالسرقة أو الخطف والقتل، ولكنها اتخذت منحى طائفياً، وهو الأمر الذي لم يتوقف منذ ذلك الحين، فقد اجتاحت الشارع اللبناني موجة من الجريمة، لم تظهر هوية حزبية بقدر ما كانت مغامرات طائفية يقوم بها متعصبون أو مفتعلو حوادث، وما جعل هذه الأحداث تتصاعد وتأخذ شكلا طائفيا أكبر، هو الحكومة التي شكّلها شهاب ووضع على رأسها رشيد كرامي الذي اختار معظم وزرائه من الفريق المعارض، وطعّمها ببعض الحياديين، مما جعل "الميثاق" يميل متأرجحا مرة جديدة، وبشكل أكثر عنفا هذه المرة، بعد أن اختفت إلى حد كبير المظاهر الوطنية لتحل محلها الأنماط الطائفية، فازداد العنف في الوسط المعارض للرئيس شهاب، وتصاعدت موجات الخطف فاضطر جزء كبير من اللبنانيين للبقاء في منازلهم خوفا من الخطف أو حتى القتل العشوائي.

الخطوة الأهم كانت مصالحة الرئيس شهاب لعبد الناصر، بعقد لقاء الخيمة الشهير على الحدود السورية، وتقديمه تعهدا بأن لبنان لن يكون ممرا لمؤامرات ضد الجمهورية العربية المتحدة

تدارك الرئيس ذو الخلفية العسكرية الموقف فعهد بالمناصب الأمنية إلى ضباط موالين له، وحلّ حكومة كرامي ثم شكّلها من جديد برئاسة رشيد كرامي نفسه مع أربعة وزراء، اثنين من الموالاة، واثنين من الفريق المعارض، تراجع بعد هذه الترتيبات العنف، وأزيلت المتاريس وعادت الحياة جزئيا إلى طبيعتها، ثم أجرى شهاب انتخابات قيل إنها الأكثر نزاهة وتمثيلا للبنانيين في تاريخ الانتخابات اللبنانية، ولو أنها أسفرت عن خسارة لتيار الرئيس السابق مواقعه النيابية مع ازدياد قوة الكتائب اللبنانية وسيطرة لتيار المعارضة الذي أصبح في السلطة الآن، أما الخطوة الأهم فكانت مصالحة الرئيس شهاب لعبد الناصر، بعقد لقاء الخيمة الشهير على الحدود السورية، وتقديمه تعهدا بأن لبنان لن يكون ممرا لمؤامرات ضد الجمهورية العربية المتحدة، في حين طمأن عبد الناصر شهاب بأن لا أطماع له في لبنان. استقرت هذه الصيغة وبدا العهد مستقرا ولكن المواجهات كانت تستعر في مجلس الوزراء بين الأخصام التقليديين وبشكل خاص كمال جنبلاط الذي كان طرفا رئيسيا في كثير من مواجهات مجالس الوزراء التي تشكلت خلال عهد الرئيس شهاب، وكان دفاع جنبلاط عن عبد الناصر يعطيه مزيدا من الرصيد الشعبي في الأوساط الإسلامية، مما يثير في وجهه بيار الجميل صاحب وجهة النظر المعاكسة، أما الشخصية السياسية المهمة، وهي صائب سلام، فكان يظن أنه أحق بتلك الشعبية في الشارع الإسلامي من جنبلاط.

استطاع الرئيس فؤاد شهاب إيقاف الحرب الأهلية التي نشبت بالفعل في عام 1958، ولم يتصرف كماروني تقليدي بوقوفه في الصف المعارض للعروبة، وعندما طرح موضوع إعادة انتخابه، رفض ولكن ليس قبل أن يمهّد الطريق لرئيس جديد يشبهه مسلكيا ليحافظ على نهج سياسي معتدل أصبح تيارا سياسيا في لبنان يدعى "الشهابية".