icon
التغطية الحية

الشعر أمام خوف الكائن.. قراءة في (ظل خوف) الشاعر السوري سوار ملا

2022.05.30 | 07:58 دمشق

zl_alkhwf-_tlfzywn_swrya.jpg
+A
حجم الخط
-A

(ظلُّ الخوف) هو الديوان الأول للشاعر السوري (سوار مَلا)، صدار مؤخرا عن (دار المتوسّط). وما أن يصل القارئ إلى آخر صفحة فيه حتى يعثر على قصيدة قد تستوقف المنشغل بتفكيك العلامات وقراءة ما خلف السطور، قصيدة نعتقد أن الشاعر تعمّد وضعها كنهاية. لأنها تلخص لماذا يكتب الشاعر. ففي هذه القصيدة ثمة (رجل) غائبٌ عن النصّ لكنا نعرفه من خلال إسناد الشاعر إليه عددا من الأفعال والحركات، وكل فعل وحركة يقابلها شيء هو غالبا مناقض، يقوم الشاعر بمخاطبته بضمير (أنتَ). (هناك) رجل غائب، و(هنا) أنتَ الذي تكتب، وهذا الذي هنا سرعان ما نكتشف أنه الشاعر نفسه واضعا ذاته كنتيجة لذلك (الغائب)، بل ‘ن الشاعر لا وجود له دون ذلك الذي (هناك):

تحفر كلماته على جذع شجرة مقتلعة

وتهجئها ببطء، كأنها قصيدتك الأجمل

تحلم بسيرته المأساة

تسير في نومك على قدميه

تلمح في النافذة انعكاس صورته

تفتح الآيباد ليقرأ

وتكتب، الآن، باسمه

لكنك

لا تصيره قطّ

إنه دوما سواك. ص 110

الشاعر في حاجة ماسة إلى غياب ذاك الطرف من الثنائية، ليؤكد حضوره هو، وبالعكس، وما الكتابة سوى فعل استرجاع وتوليدٍ لذلك الغياب. الكتابة هنا نوع من تثبيت ذات الشاعر الذي يرى نفسه مقسوما، مشطورا، وكل كتابة هي في الأساس إيجادٌ - من الوجود - للذات الغائبة. ولكن إذا رجعنا الآن إلى النص الأول في الديوان فسوف نرى دليلا على أن الشاعر لم يضع هذه الخاتمة عشوائيا، فالنص الأول والنص الأخير يشكلان بداية ونهاية مدروسة وليست مجانية، فهو في البداية أيضا يتحدث عن (غائبين) يحاورهم ويجالسهم وذلك في عهد طفولته:

في طفولتي، كنت خارج البيت أكتشف العزلة، وأُمضي وقتي كله باحثا عنها، وداخل البيت كنت أفرّغ كثيرا من الوقت في محادثات طويلة مع نفسي، جالسا في غرفتي أو في حديقة البيت، وأحيانا مع أصدقاء، لم يكونوا، في الحقيقة، موجودين قطّ. ص 7

بطبيعة الحال ليس غريبا على ماهية الشعر أن يدرك الكائن انشطاره وانقسامه، فالشاعر يلتقط اللحظة الأكثر معاناة في الذات الإنسانية وهي لحظة الانشطار والتمزق، فتلك (سنّة الوجود) التي لا مهرب للوعي الشعري من الارتطام بها والامتثال لأثرها البالغ:

أحسّ أن العالم في الخارج عدوّ للعالم في الداخل،

حين أخرج أصير عدوّ نفسي- ص 10

وبين الخارج وأشخاصه، والداخل ووحدته، يشعر هو بـ (الخوف) وسوف نرى هذا الخوف من أبرز التيمات المسيطرة على أجواء الديوان بدءا من عنوانه.

في نصّ آخر يعرّفنا الشاعر على نفسه على هذا النحو:

يسكنني الخوفُ كلغزٍ

الخوف يؤلّف روحي مذ تكوّنتُ

ولا أعرف، بعدُ، من يسرّ بدل ذلك، حيث لا شيء بالمجّان في هذا العالم. ص 11

"الخوف يؤلّف روحي مذ تكونتُ" هكذا يسلمنا الشاعر بسلاسة أهمّ مفتاح يسعفنا في الولوج إلى طرقات عالمه الشعري، وفعلُ (تكوّنتُ) هذا له دلالة فريدة وتختلف فيما لو قال مذ (وجدتُ)، فالكائن لا يعي وجوده إلى بعد أن يتكوّن هذا الوجود، مما يعني أن الخوف يبدو وكأنه جذرٌ في الطبيعة البشرية! ويعطينا علم النفس إضاءة جليّة لفهم الكائن البشريّ منذ (يتكوّن) في مرحلة الرحم، فهي كما نعرف الآن مرحلة مؤسسة لمبنى الكائن ومعناه فيما بعد، وهي مرحلة قابلة لأن يتفاعل فيها الجنين مع مؤثرات خارجية قد يكون عامل الخوف واحدا منها بصورة واقعية وليست مجازية.

وحين يعي الشاعر/ الكائن وجوده، يكتشف أن الخوف موجود فيه لأسباب غامضة في البداية، لذلك ليس من الحتميّ البحث في أسباب منطقية للخوف عند الشاعر مثل الحروب والطغاة والتشرد والاعتقال... إلخ، فذلك كله تحصيل حاصل، ولكن الشاعر يقول أنا خائف منذ البدايات قبل وعيي لهذه القضايا! إنها تراجيديا الإنسان التي تلازمه.

وعلى الرغم من أن القضايا الكبيرة لا يزول أثرها بين سطور الديوان، وهذا أمر طبيعي، لكن حين يلفت الشاعر نظرنا إلى خوفه مذ تكوّن فهذا يأخذنا إلى قراءة هذا الخوف وكأنه خبرةٌ إنسانية في اللاوعي كامنةٌ في الوضع البشري برمّته. لكن الفكرة الأكثر غرابة ودهشة أن هناك من يشعر بالفرح لأن هناك شاعرا/ كائنا يخاف! الشاعر يعلن أن خوفه يجعل أحدا ما فرحاً، أحدا يشعر بالسعادة في مكان ما لأن هناك إنسانا يخاف! لذللك سيكون الشاعر فرحا بخوفه فخوفه يسبب الفرح للآخرين! وصار يخاف ألا  يخاف لكي لا ينقص الفرح لدى هذا الشخص الآخر! إن هذه فكرة نكاد نقول إنها مستحدثة ومبتكرة بكل معنى الكلمة، وهي فكرة معقدة وذكية وجاءت ليس فقط نتيجة الحسّ الشعري الخاص بل نتيجة المدى الفلسفيّ الذي يجتهد الشاعر في التعاطي معه في كتابته. يتابع في النص السابق نفسه عن هذا الأحد السعيد بخوفه:

لا أعرف من، لكنني متأكد أن أحدا ما ينتفع جراء ذلك،

وهذا هو العزاء الوحيد لي.

أخاف، فينتفع أحدٌ ما.

الآن أشعر بالخوف، فيحسّ آخر بالسعادة.

يا له من عمل نبيل!

أنا فرحٌ، إذن، لأني خائفٌ، ولأنه ثمة أحدٌ ما لا أعرفه، فرح أيضا، لأني خائف.

هذه الليلة يخطر لي أن أؤجّل لقاء نهاية الأسبوع، كيلا ينقص خوفي، فتختلّ سعادةُ أحدٍ ما- ص 11

لا يسمّي سوار هذا الشعور بالقلق جريا على ما هو شائع في كثير من الكتابات الشعرية والفلسفية المعروفة، وربما استعمله كثيرون بصورة عشوائية ومن باب عدوى التأثر ليس إلا، بل هو يركز على الخوف المختلف عن معنى القلق، فثمة توظيف دقيق للدلالة حسب مقتضى السياق. بل إنه في نصّ آخر يسميه دون مواربة (الجبن) ويروي شيئا من ذكريا الطفولة تكرس مقولة الجبن حرفيا وليس القلق. ويتقدم في نص آخر خطوة مهمة في معنى الخوف فيقول:

قلت لموتاي الأحبة: عددُ الموتى لا يحصى؛

ما يفعلونه لا يُدركُ؛ يفرون من باطن الأرض إلى أمكنة تغوينا؛ يظهرون في أجمل ذكرياتنا،

ولا يغيبون في أنقى الاحلام. نخاف من عالمهم، لأننا نخاف من الحرية. ص 36

الآن لدينا: (الخوف ـ الجبن ـ الخوف من الحرية)، تلك أفكار ليست شعرية فقط بقدر ما هي علامات دالّة على ذات تعاني حقيقةً من علاقة معطوبة مع الآخرين الذين هم أحيانا أفراد في المجتمع وأحيانا أخرى هم طغاةٌ وحكام قتلة، منا يفتح الباب لقراءة تأويلية تعتمد منجزات التحليل النفسي كما أشرنا من أجل ضبط المدى الدلالي الذي تندرج فيه هذا المفردات.

الخطوة الأكثر غنى وتراجيديةً تأتي من نصّ (عامودا) ص 78 ففي هذه القصيدة خمس علامات دالّة على موضوعة الخوف، فالسطر الأول (عامودا التي ما تزال ترتجف

يخيفها الذي انتصر مرار

وكذا الذي لم ينتصر)

ثم يقول (نحن الذين شربنا من خوفها وخرجنا بلا عودة) ويختم بـ (عامودا آخر مكان للطمأنينة) (وأول مساحة للفزع).

يمكن اعتماد قصيدة عامودا كبؤرة إضاءة مركزية نستهدي بها في تجوالنا في عالم الخوف وسياقاته في هذه الديوان، ومجرد الحديث عن خوف عامودا من المنتصرين أو الذين لم ينتصروا، يضع القارئ في جغرافيا خصوصية من المعاني والذكريات والهواجس بكل أشكالها الفردية والهوياتية والسياسية والمستقبلية... إن عامودا بحد ذاتها معجم قائم بذاته لمن يدرك التمعّن في طبقات هذا المعجم.

ولأن الخوف شربناه من مسقط رأسنا عامودا، فسوف يكون الخوف مثل السماء لا مهرب منها أينما تحرك الكائن حتى في منفاه

أما تلك العبارة (شربنا منها خوفنا) فهي كما يقال ضربة معلم! وتبدو هذه العبارة المفتاحية رديفا لمعنى (شربنا الخوف مع حليب أمهاتنا)! الشاعر هنا يتحدث بصيغة (نحنُ)، أي أن الخوف لم يعد صفة شخصية للشاعر، بل هو مصير كل من ولد ونما في عامودا! وهذا خطاب مشبع بكل مجالات التأويل بما في ذلك الجانب السياسيّ ولكن من غير أن يعلن الشاعر ذلك ومن غير ادعاء ولا استعراض، فالخوف هنا أكبر من حصره وتحجيمه في حقل واحد.

ولأن الخوف شربناه من مسقط رأسنا عامودا، فسوف يكون الخوف مثل السماء لا مهرب منها أينما تحرك الكائن حتى في منفاه، بل ينقلب الخوف إلى أمر عاديّ إلى درجة أن السماء الصافية تلك ما هي صافية إلا لأنها تشبه الخوف:

انظر فوقك، تردّد ألسنةٌ غريبة؛ فأنظر، لكني لا أرى

إلا سماء صافية كالخوف الذي لا مناص منه. ص 66

الشاعر يراقب ذاته الكاتبة جيدا، ويمعن الخوض في أسرارها ويفاجئها في عرائها وحقيقتها الأولى، فيلقي عليها القبض وهي متلبّسة بالتناقض والثنائيات التي تعزز فكرة التناقض، وسوف يتخذ من الثنائيات تلك طريقة في تعزيز صفة التوتر في جملته الشعرية، توتر ناجم عن تضافر فكرتين تجتمعان معا وهما على (طرفي نقيض)، وسوف يكتشف الناقد هذه المسألة في العديد من مواضع الديوان. وفي طريق البحث عن هذه التناقضات، مضافا إليها فكرة الانقسام والانشطار السالفة الذكر، فسوف يكرر الشاعر فكرة (الفجوة التي في نفسه أو في داخله) عدة مرات، منها مثلا:

سررتُ حينما تجمّعت حولي إشاراتٌ، تركها أحبة ماتوا، فدلّتني على فجوة في نفسي،

لاحقا صرتُ أخبئ فيها ما أخشى فقدانه. ص 66

هذه الفجوة في النفس، التقاطةٌ شعرية حبلى بالدلالات والجماليات بما فيها جمالية الرعب، فليس أقسى على الكائن أن يدرك أن فيه فجوةً يسعى لملئها كل مرة بشيء ما.

إن الشاعر يمارس جرأة في الاعتراف بما نحاول كثيرا التكتم عليه جراء علاقة ليست طبيعية فيما بيننا كأفراد في مجتمع مشوّش مضطرب، ينمو بطريقة فوضوية تدميرية، تنعكس على ذوات الأفراد وتضطرهم للوقوع فريسة المشاعر المثبّطة مثل الخوف والجبن والانكفاء والإحباط من التواصل. وجرأة الشاعر تأتي من كونه منسجما في وعيه لطبيعة الوضع البشريّ ذاته، ولا يخجل من الإقرار بسلبيات هذا الوضع فهي جزء من حقيقتنا.

وللجرأة هنا لها تعبيرها الجماليّ شعريا، فالشاعر لم يتخذ من موضوعات الخوف مادة للكتابة المنطقية الموضوعية، بل هي كانت محفزات على إنتاج خطاب شعريّ بأدوات شعرية مؤثرة من لغة وبناء جملةٍ جميلة ومجازات متماسكة القوام وتكنيك لغويّ يدلّ على وقوف الشاعر في عمله الأول على أرضية واثقة من المهارة الفنية والقدرة الشعرية. بل ثمة نصوصٌ تمت هندستها حرفا حرفا وجملة جملة بمنتهى الدقة، وهذا أمر يحتاجه الشعراء الجدد كثيرا ولا يكترثون به مع الأسف، لكن سوار يمتثل لمسألة (كيف يقول) وليس فقط (ماذا أقول). إن (كيف) هي المقبض الأساسيّ ليثبت أي شاعر إمكانياته وعمق أصالة تجربته في اجتراح الشعر كفنّ وليس كتسلية ولهوٍ.

والظاهر بوضوح للمدقق النقدي أن الشاعر يعيدنا إلى النمط الحقيقي لقصيدة النثر من حيث هي كتلة لغوية واحدة نادرا ما يستعمل فيها التقطيع إلى أسطرٍ شعرية بل ترى قصيدته عبارة عن قطعة واحدة غايتها التحرك بلا هدفٍ مبرمج مسبقا، بل من أجل صياغة المضمون شعراً مستلهما من طاقة النثر الهائلة كل ما يتيحه هذا النثر من قوى، إنه أيضا يذكرنا بالنظرية الأدونيسية التي هي الأقرب لمفهوم قصيدة النثر التي مفادها (كتابة الشعر نثراً). ما يدل الناقد على أن سوار لا يكتب قصيدته خبط عشواء بل ثمة معايير فنية يتّسق معها في لحظة الإبداع.