الشرعية السياسيّة: زواج عتريس من فؤادة باطل

2023.09.21 | 07:23 دمشق

آخر تحديث: 21.09.2023 | 07:23 دمشق

الشرعية السياسيّة: زواج عتريس من فؤادة باطل
+A
حجم الخط
-A

تدور حكاية الفيلم المصري "شيء من الخوف" الصادر عام "1969" حول قصة حب طفوليّة بين "فؤادة وعتريس" ولا يلبث الطفلان أن يكبرا فيرث الحفيد "عتريس" سلطة وثأر جدّه القتيل "عتريس الجد"؛ فيتحوّل ذلك الطفل الوديع إلى ظالم، وتتغيّر مشاعر "فؤادة" تجاهه فيعجز عن استعادة حبّها له فيقرّر إرغام والدها -بالقوّة- على تزويجها إليه: شاهدان ومأذون وكلّ شيء يبدو شرعيّا؛ لكن وبلحظة انفجار درامي يخرج "الجمهور" إلى التظاهر ضد الظلم نقيض الحب، وضد سطوة القوّة نقيض الشرعيّة؛ فصرح الجمهور: "زواج عتريس من فؤادة باطل".

من خلال السياق التاريخي لمصر التي تحوّلت من الخديويّة إلى الجمهوريّة -بذريعة حق الشّعب في السلطة- فإن السلطة انتقلت إلى أيدي "الضبّاط الأحرار" الذين خسروا معركتهم مع إسرائيل عام 1967 فصدر الفيلم كنقد ثقافي يشكك بشرعيّة سلطة القوّة العسكريّة السياسيّة!

لكن لماذا القوة العسكريّة أو "القوّة" ليست مصدرا شرعيّا للسلطة؟

تذكر التوراة أن الله عزّ وجلّ -وعبر عهد بينه وبين النبي- كان يهب البركة للأنبياء والنبي يورِّثون العهد والبركة للابن البكر -غالبا- فيمتلك الابن السلطة الروحيّة المباركة!

ورث الملوك سلطة الأنبياء وكان الفصل بين السلطتين "الروحيّة والمدنيّة" عقب الثورة المجيدة في بريطانيا سنة (1688) اعترافا من الملوك بحريّة الفرد المساوي بطبيعته الإنسانيّة لكل فرد آخر.

رغم أنه توفي قبل بدء الثورة بفترة وجيزة فقد كان روسو ملهما للثورة الفرنسيّة وشعاراتها حول "الحرية والمساواة" لكن فلسفة روسو وثورة الفرنسيين لم تتمكّنا من منع استيلاء شخصيّة عسكريّة كنابليون بونابرت على السّلطة

اعتقد "روسو 1778" أن الإنسان تمتّع بالحريّة الطبيعيّة وكان مشروعاً له استخدام "القوّة" للدفاع عن مصالحه في حين أنّ المرحلة المدنيّة تفترض شرعيّة القانون "العهد الاجتماعي" الذي ينتج عن توافق بين "إرادات – احتياجات" مدنيّة بين مجموعة من الأفراد المتساوين!

ورغم أنه توفي قبل بدء الثورة بفترة وجيزة فقد كان روسو ملهما للثورة الفرنسيّة وشعاراتها حول "الحرية والمساواة" لكن فلسفة روسو وثورة الفرنسيين لم تتمكّنا من منع استيلاء شخصيّة عسكريّة كنابليون بونابرت على السّلطة أو إرث الملك بعد الثورة مباشرة فعُيّن نابليون امبراطورا باسم الشّعب!

وفي حين لم يعتقد روسو بشرعيّة القوّة فإنّ فيلسوفا ألمانيّا كـ "هيغل" أعجبته هيئة نابليون وهو يجتاح بحصانه ألمانيا، وثمة شيء ما عن "المساواة" سيتغيّر بعد هيغل؛ فلم تعد هي تلك التي تفترضها الطبيعة الإنسانيّة مرادفة للحريّة كما عند (جون لوك ت 1704) بل صارت المساواة ضرباً يستوجب تحقيقه الانتصار في معركة تبدأ بين "السّيّد والعبد" وينتهي بين السيد الحضاري المستعمِر وبين الأمم المتخلّفة!

نيتشة توفي عام (1900) لكنّه كان صريحاً؛ فإذا كانت الحياة إنما هي صراع قوى فالحقيقة -والحق- هما ناتج هذا الصراع ولا معنى إذن لثنائيّة الخير والشر؛ وتعدّ النازيّة تمثّلاً صريحاً لمثل هذا المنطق فالعرق الآري هو الأقوى ومن ثمّ فله الحق في السيادة بل وإبادة الأعراق الأخرى الأقل "حيويّة" وذلك خير!

على مسرح العالم قدّم الوعي المادي الصرف حربين عالميّتين قتلتا ملايين الناس؛ وشهد ما بعد الحداثة نقدا مهمّا لمنطق -القوّة- ومقولة فيلم "شيء من الخوف" بأنّ "زواج عتريس من فؤادة باطل" هي إحدى تجلّيات نقد ما بعد الحداثة إذن.

 ظهر اليسار كحركة كبح لتغوّل القوّة في حين بقي "الديالكتيكي" ثابتا كأنه مقدّس، واستمر باحتلال الوعي البشري واختصار الحياة بين تنويعات "هيغليّة وماركسيّة" تسحق -بين ذاتين متصارعتين- هامشا لا هو يمين ولا هو يسار؛ فأميركا تجد أنّ من حقّها تحرير الأفغان من السوفييت في حين أن السوفييت -وروسيا – وجدوا أنّ من حقّهم تحرير شعوب أخرى -السوريين مثلا- من الإمبرياليّة أمّا نحن فكّنّا كمأساة أنثى معاصرة تتصارع فوق رأسها ذاتان: إحداهما تريد "تحجيبها" والأخرى تريد "تسفيرها" أمّا هي فكأنّها محض ميدان مصمت لا غير!

في واقعنا المباشر؛ وبموازاة طائفة من التراثيين لم يدخلوا بعد التصنيف المدني، فإنّ الاشتراكيّين -الماركسيّين غالبا- كالناصريين في مصر والبعثيين في سوريا والعراق بل والـ "pkk" فقد أبدعوا -باسم حق الشّعب- في سحق أفراد ذلك الشّعب؛ على طريقة حق الـ"pkk" باختطاف المراهقات الكرديّات لتحرّر الشعب الكردي! أو حق البعث العربي باعتقال الشبابَ العربي في السجون لعشرات السنين وربّما تصفيتهم لتحرير فلسطين!

وقد يتحوّل هذا الوعي النّخبوي والسّلطوي فجأة -لحظة انكساره- إلى الليبراليّة لينتج "ليبراليّة جماهيريّة" فتتحوّل العشائر الآيديلوجيّة -القوميّة والشيوعيّة- إلى مكوّناتيّة "طوائف وأعراق وقبائل" وتتبدّل سلطة الآيديولوجيا الحزبيّة إلى سلطة الأعراف والتقاليد فيجرّد "المكوّن" الفرد من كينونته مرّة أخرى ليدخله من جديد إلى حظيرة الهامش!

إنّ مقولات نخبويّة من مثل: أن ثورة السوريين إنما كانت ضد "الرئيس النصيري" ما مؤدّاه أنّ الرئيس لو كان سنيّا فسيكون قصفه للمدن السوريّة شرعيّا!، أو أنّ السوريين ثاروا ضد النظام العربي ما يعني أنّ سرقة النفط -ما دأب عليه النظام- لو تمّت بواسطة نظام كردي أو تركماني فستكون حلالا! مقولات ساذجة لكن رغم سذاجتها فقد وجدت "نخب جديدة" ساعية للسلطة ضالتها في ممارسة اللعبة السلطويّة فحصلت تلك النخب -حتى الآن - على حصتها من السلطة باسم "المكوّنات" في حين ظلّ أفراد المكوّن هامشاً صامتاً خارج "اللعبة السياسيّة"، ولا تزال تلك النخب الفضائيّة مشغولةً بحماسة في شرعيّة رئاسة "هادي البحرة" لـ "الائتلاف" أو عدم شرعيّة الانتخابات بعد إقصاء نصر الحريري أو مشغولين في لا شرعيّة استيلاء "مظلوم عبدي" منفرداً على نفط حقل العمر من دون تقاسم النفط مع شيوخ العشائر وهادي البحرة وعبد الرحمن مصطفى والجولاني وبشّار الأسد وكأنّ اتفاق هؤلاء -حتى لو حصل- سيمنحهم الشرعيّة!

الجميع يتحدّث باسم الشّعب ويؤكّد أنّ السلطة من حق الشعب -وحزب البعث يؤكّد ذلك أيضاً في المادة 5 من دستوره- فكيف يمكن لأفراد الشعب التمييز بين البعث ومعارضاته إذا كانت النماذج المطروحة نظريّا وعمليّا كقوى أمر واقع كلّها -كحزب البعث- لا ترى الأفراد ولا مصالح الأفراد!

حتى لو سلّمنا أنّ "آلهة" منحتهم بركتها ومن ثمّ فسلطة هؤلاء ليست معنيّة بنا كمصدر فإنّ المفارقات ستظل تطرح أسئلة من مثل:

لماذا لا يجرؤ عبد الرحمن مصطفى أو هادي البحرة مثلا على المثول نيابة عن أحد أفراد أسرهم الصغيرة في أيٍّ دوائر الدولة التركيّة أو الفرنسيّة من دون تفويض قانوني؟!

بشّار الأسد -وبحسب تصريح له- ديمقراطي لا يتدخل في خيارات ابنه المستقبليّة -فيما لو أراد الأخير أن يكون رئيسا- فمن منح بشّار الشرعيّة القانونيّة لتمثيل إرادة ملايين السوريين!

هل ينوب شيخ العشيرة أو الطائفة أو الفصيل عن أحد أفراد العشيرة أو الطائفة أو الفصيل أمام القضاء التركي أو الأميركي أو أيّ من الدول الصديقة والعدوّة؟!

بشّار الأسد -وبحسب تصريح له- ديمقراطي لا يتدخل في خيارات ابنه المستقبليّة -فيما لو أراد الأخير أن يكون رئيسا- فمن منح بشّار الشرعيّة القانونيّة لتمثيل إرادة ملايين السوريين!

هي قوى أمر واقع إذن؛ وليبراليّا: فإنّ كل "زواج عتريس من فؤادة -بالقوّة- باطل" شرق الفرات وغربه وجنوبه؛ ذلك أنّ الشرعيّة إنما تنبعث من حريّة إرادة الأفراد السوريين الأحرار لا من غيرهم ولا منهم إن لم يكونوا أفرادا أحرارا!

من دون شكّ تدرك الدول المتصارعة في سوريا نقص شرعيّة الأجسام السياسيّة التي تستعين بها تلك الدول كأدوات، وربّما يمكننا نحن الهامش السوري أن ننتقد تلك الأدوات من دون الوقوع في مطبّ نقد أداة لمصلحة أداة دوليّة أخرى؛ ذلك أنّا لسنا أدوات بل المتضرّرون المباشرون من غياب شرعيّة سياسيّة صادرة عنّا لتمثيل مصالحنا بشكل حقيقي ومسؤول.