icon
التغطية الحية

"السيطرة الغامضة" كيف استطاع حافظ الأسد تطويع بلدٍ بالخدعة

2020.10.22 | 12:39 دمشق

1000.jpg
جدار إحدى المؤسسات الحكومية في سوريا وُضع صورة حافظ الأسد - الإنترنت
إسطنبول - طارق صبح
+A
حجم الخط
-A

في حزيران من العام 2000 رحل حافظ الأسد عن البلاد والدنيا، وورثه ابنه بشار، الطبيب ذو العيون الزرقاء القادم من كلية الطب في لندن، حينئذ بدأت التكهنات عن احتمالات التغيير والإصلاح في سوريا، ومنها خاصة ما يتعلق بظاهرة التقديس والتعظيم، التي بدأت بالضمور في الأشهر الأولى من حكمه، بالتزامن مع "ربيع دمشق" الذي ما لبث أن تحول إلى شتاء قارس.

ومع الحرب الأميركية على العراق، عاد منظرو نظام الأسد ومطبّلوه إلى العمل بطاقةٍ مضاعفة، لإنتاج شعاراتٍ وخطب وأعمال فنية تعظّم الابن الذي يفتقر للكثير من كاريزما والده ودهائه، الأمر الذي جعل المهمة أصعب، لكنها مهمة حتمية لنجاح التوريث واستمرار النهج وترسيخ السيطرة.

فمن أين اكتسبت هذه السيطرة قوتها؟ وما الاعتبارات التي تستند إليها؟ وما هي البروباغندا التي استطاع نظام الأسد الأب تطويع بلد بكامله لمتطلباته.

في كتابها "السيطرة الغامضة"، تبحث الكاتبة "ليزا وادين"، الأستاذة ورئيسة قسم العلوم السياسية في جامعة شيكاغو الأميركية، والمختصة بشؤون الشرق الأوسط، ظاهرة تقديس حافظ الأسد، من خلال الشعارات والعروض والملصقات والرموز والبلاغة الإنشائية والخداع اليومي، الذي أكسب حافظ الأسد قوة هائلة، مكّنته من فرض طاعة مدنية مخيفة، وإحكام قبضته وزرع الخوف في كل نواحي البلاد.

السيطرة الغامضة_0.jpg
غلاف نسختي الكتاب الإنكليزية والعربية

 

التقديس استراتيجية للسيطرة

تطرح الكاتبة في الفصل الأول، السؤال الجوهري لفهم دور البلاغة الإنشائية والرموز في تدعيم السلطة السياسية، وذلك في غياب وجود التزام وجداني عند الشعب تجاه النظام، وعن سعي الأخير الدائم للتحكم بالعالم الرمزي، والإنفاق الباهظ لصياغة الرموز، بدلاً من حشد الموارد لزيادة القدرة على الإكراه أو إشراك المواطنين بشكلٍ إيجابي.

وترى الكاتبة أن ظاهرة تقديس الأسد هي استراتيجية للسيطرة، وقائمة على التطويع بدلاً من الشرعية، كما تقدم مقارنةً بين ظاهرة تقديس حافظ الأسد في سوريا، وظاهرة تقديس صدام حسين في العراق، علماً أن كلاّ من البلدين يُحكم من قبل حزب البعث.

 

"الأب القائد"

تستعرض ليزا وادين بداية ظاهرة التقديس التي بدأت أوائل السبعينيات بشكلٍ لم تعهده سوريا، وتعدد الكاتبة أصول هذه الظاهرة (الأسد نفسه، حزب البعث، أحمد اسكندر أحمد، الصراع بين الأسد وشقيقه رفعت).

تعتبر الكاتبة أن ظاهرة التقديس قتلت السياسية، وتزامنت مع الأداء السيئ للاقتصاد السوري، وإدراك السوريين لسوء الإدارة والفساد، وتفاقم ذلك بعد هزيمة الإخوان عام 1982.

وانتقلت ظاهرة التقديس إلى أسرته بكاملها، ولجعل ذلك ممكناً رُبط الحاكم بالأسرة السورية عبر رمز "الأب القائد"، فاستحضار العلاقات العائلية له صدىً لدى الفرد السوري.

وعلى الرغم من ذلك، لم تكن البلاغة نموذجاً للشخصية السورية، فليس مطلوباً الإحساس بالتماهي مع الأسد أو محبته، إنما المطلوب التظاهر بذلك فقط، تقول الكاتبة "كل سوري فصيحٌ في اللغة الرمزية، لأنه من المستحيل الهروب منها، فحتى تكون سورياً يعني جزئياً أن تتحرك ضمن هذا العالم البلاغي".

 

التظاهر "كما لو أن"

في هذا الفصل تورد الكاتبة "قصة ميم"، وهي قصة من غير المؤكد حدوثها، إلا أنها تعبير مليء بالدلالات الحية عن واقع المجتمع السوري، فالنظام يتحكم حتى بالأحلام.

والقصة حدثت في ثكنة عسكرية، وهي مكان تستفحل فيه مظاهر الولاء والطاعة، إلا أن "ميم" يتجاوز المحظور، ويعرض مناهضته لحب تعظيم الحاكم بنفس سياسة النظام القائمة على التظاهر "كما لو أن"، فبدل أن يأخذ لغة الخطاب المباشر يستخدم خياراً مسرحياً، وهو التعبير عن الرفض بواسطة الحلم، إلا أن "ميم" مع ذلك لا ينجو من العقاب والانتقام.

 

 

الإبداع وإشارات التجاوز

هل المنتج الإبداعي المقاوم للنظام مسموح به على سبيل التنفيس لإدامة السيطرة القمعية للنظام بدلاً من تقويضها؟ أم أنه المستطاع في ظل هذا النظام؟

استناداً إلى هذا السؤال تستعرض الكاتبة في الفصل الرابع التجارب الإبداعية لدريد لحام ومحمد الماغوط، وياسر العظمة، وعلي فرزات، وأسامة محمد، ونبيل المالح، وسمير ذكرى، مع عرضٍ تحليلي ونقدي لأعمالهم، لتنتقل بعدها إلى اللغة الضمنية التي ابتدعها السوريون للتعبير عن رفضهم ومقاومتهم، ألا وهي النكات السياسية.

وتستعرض الكاتبة الأحداث السياسية والاقتصادية في فترة شيوع كلٍّ منها، إلا أنها تتجاهل الحراك الفكري والثقافي الذي ظهر على شكل المطبوعات والكتب والمنشورات التي كانت توزّع سراً.

كما تستعرض الكاتبة الطرق التي استطاع من خلالها السوريون الدخول في مناوشات على خطوط التماس، والتي أوجدتها ظاهرة التقديس بين الحاكم والمحكوم، وتحلل النكات ورسوم الكاريكاتير والأعمال الكوميدية التلفزيونية والسينمائية المسموحة والسرية، التي تبرهن على المنافسة الاعتيادية والواعية للشعب تجاه خطاب النظام الإقصائي.

وهنا تسأل الكاتبة، إلى أية درجة وبأية طريقة يمكن لإشارات التجاوز هذه أن تتطور إلى مقاومة سياسية؟

 

الطاعة والسلطة

في الفصل الأخير، تطرح ليزا وادين تساؤلاً عن الطاعة والسلطة والشرعية، فالناس يطيعون لأنهم يؤمنون بقيمٍ وأعراف ومعايير، يعمل على أساسها نظام معين، أو لأن الطاعة خدمة لمصالحهم المادية، أو لأنهم يخشون النتائج القمعية لعدم الطاعة.

كل هذه بلا شك إجابات جيدة ولكنها غير كاملة، فتفشل هذه الإجابات في تفسير الطرق التي تتدخل من خلالها اللغة والرموز وتحدد وتشكل وتعيد بشكلٍ متواصل تقييم السلطة السياسية والطاعة.

يزوّد كتاب "السيطرة الغامضة" قارئه بتفسير نفسي وسلوكي لما يجري حولنا اليوم، فالنظام الأبوي الذي صنعه حافظ الأسد، وظن وريثه أنه سيملكه، لا يرضى بحال من الأحوال بـعقوق أبنائه.

لكن، ليس حافظ الأسد وحده من مات، بل كل ما بني على سيطرته "الغامضة"، والتي أمضى ثلاثين عاماً في صنعها، ذهب إلى غير رجعة، وعندما خرج السوريون إلى الشارع في ثورتهم حطموا تماثيل الأب قبل نزع صور الابن، فالثورة على الأصل لا على المستنسخ منه.

 

صدر الكتاب لأول مرة باللغة الإنكليزية بعنوان "Ambiguities of Domination: Politics, Rhetoric, and Symbols in Contemporary Syria" في العام 1999، ترجمها للعربية نجيب الغضبان في العام 2010، وصدر عن دار "رياض الريّس" في لندن.

 

 

اقرأ أيضاً: مراحل تدجين الشعب ليغدو قطيعاً وديعاً

اقرأ أيضاً: رياض الريس: رحيل صحفي المسافات الطويلة