السيدة الأولى ورفاهية الصحة السمعية..

2023.08.16 | 07:15 دمشق

السيدة الأولى ورفاهية الصحة السمعية..
+A
حجم الخط
-A

وسط حشد كبير من الصم والبكم، ألقت "سيدة الوطن"، السيدة الأولى، "سيدة الياسمين"، خطاباً مفاجئاً حول موضوع لم يسمع به السوريون ولم يخطر على بالهم في ظل حالة الصمم العام المسيطرة على كل المسؤولين في سوريا، لتزف لهم نبأ سعيداً يتعلق بضرورة الاهتمام بالصحة السمعية لدى حديثي الولادة وأحدث الاكتشافات العلمية التي تنوي تطبيقها في سوريا للكشف المبكر عن أصحاب الإعاقات السمعية، وأهم النظريات والمناهج المزمع اتباعها لمعالجة هؤلاء الأطفال والحرص على تخليصهم من تلك الأمراض حالما وجدت.

في هذا الخطاب تنقلنا السيدة الأولى إلى سوريا متخيلة، متوهمة، سوريا غير تلك التي يعيش فيها السوريون الباحثون عن كسرة خبز وحبة دواء والخائفون من الحاضر والمستقبل، سوريا التي بات حلم جميع القاطنين فيها ألا يسمعوا ولا يروا ما يحدث، وبات الخروج منها إلى أي مكان في العالم مقصداً للجميع وبأي ثمن، سوريا التي تتدهور حالتها الاقتصادية يوماً بعد يوم، وتزداد الحياة فيها صعوبة وتعقيداً وخوفاً واضطراباً، سوريا التي لم تعد مكاناً صالحاً للحياة حتى بالنسبة لأولئك الباحثين عن كفاف يومهم، سوريا التي أصبح الذل سمة أساسية لمواطنيها، ذل الجوع وذل القمع وذل العجز وذل المرض وذل الغربة التي يعيشها السوري في بلده، سوريا التي لا تزال أكوام الدمار قابعة على امتداد مساحاتها والتي تشهد على مدى حرص القصر الجمهوري وحرص سيد الوطن و"سيدته" على الجغرافيا والتاريخ والعمران والإنسان والأطفال ومستقبلهم، سوريا الممتلئة بالمصابين والمعاقين الذين يتجاهلهم سيد الوطن وسيدته وكل الأسياد الآخرين من قادة الأجهزة الأمنية وضباط القصر الجمهوري الذين باتوا يعاملون السوريين على أنهم مجرد عبيد لا حقوق لهم ولا احترام، وكل ما يجب عليهم فعله هو السمع والطاعة والتسبيح بحمد الرئيس وزوجته وإعلان الولاء لهما ولأولادهما، سوريا التي لا تزال صرخات معتقليها المكتومة تئن وتملؤ جدران الصالة نفسها التي تستخدمها زوجة الرئيس كواجهة حضارية لأعتى ماكينة قمعية شهدها التاريخ، سوريا التي لم تجف بعد دماء أطفالها الذين أبيدوا بالبراميل والصواريخ والكيماوي قبل الكشف المبكر عن إعاقاتهم السمعية، في سوريا كهذه تخرج علينا سيدة الياسمين لتعلن مشروعها المتعلق بالصحة السمعية لحديثي الولادة.

الوهم الذي تعيشه السيدة الأولى جعلها تعتقد أنها إمبراطورة تتربع على عرش روما بعد أن حققت لشعبها كل مستلزمات رفاهيته وبات عليها التفكير في المزيد، ويبدو أن عفريتاً بريطانياً قد تلبسها فراحت تعتقد أنها ملكة بريطانيا العظمى

في هذا السياق، تصر السيدة الأولى على إثبات أنها أكثر انفصالاً عن الواقع من زوجها، فهي تخاطب الطبقة المخملية المتبقية في سوريا والمكونة من مجرمي الحرب وتجار الحرب وتجار الدم، تخاطب المافيا التي قتلت الآلاف من أطفال سوريا لتبدو كأنها تحكي لهم "نكتة" تسخر من الشعب السوري بشيبه وشبابه وأطفاله ونسائه، نكتة تتعيش على وجع السوريين وتحوله إلى مادة للتندر، ومجالا لاستعراض مواهب السيدة الأولى في الإدارة والتفكير الاستباقي المبتكر وخفة الظل أيضاً.

الوهم الذي تعيشه السيدة الأولى جعلها تعتقد أنها إمبراطورة تتربع على عرش روما بعد أن حققت لشعبها كل مستلزمات رفاهيته وبات عليها التفكير في المزيد، ويبدو أن عفريتاً بريطانياً قد تلبسها فراحت تعتقد أنها ملكة بريطانيا العظمى، كيف لا، وهناك المئات من لابسي البدلات الرسمية وأربطة العنق يستمعون إليها كتلاميذ مدرسة رغم إعاقاتهم السمعية، تأخذهم الدهشة وهم ينظرون مذهولين إلى سيدة الياسمين وهي تنساب إنسانيةً ورقةً وحرصاً وحناناً ووداعة وانفتاحاً والتزاماً ومسؤولية، ويصفقون لها كأنهم في حضرة زعيم ملهم لا يجود الزمن بمثله كثيراً.

تبدو السيدة الأولى واثقة بقدرتها على الإقناع والتأثير، متناسية الكذبة التي صدقتها، أو ربما لم تصدقها بل انسجمت معها كحالة وظيفية تحاول من خلالها تلميع زوجها وتلميع نفسها، فتبدو كمن يسكب الماء في كأس مخروق، تبدو كلاعب سيرك مشلول ولكنه يراهن على دهشة المشاهدين، تبدو كمهرج يثير البكاء ويفرض على متابعيه الضحك تحت تهديد السلاح، كذئب استفرد بقطيع أغنام فقَد كلب حراسته وهرب راعيه، فراح يستأسد على الخراف من دون خوف من انتقام أو جزاء.

لا يمكن تفسير مشروع السيدة الأولى إلا على أنه حلقة من حلقات التسويق لنفسها والذي أخذ منحى تصاعدياً في الفترة الأخيرة، ولكن مشروع الكشف المبكر عن الإعاقات السمعية لحديثي الولادة تجاوز الخط المغلف بالواقعية الذي كانت تتبعه في مسيرة المتاجرة "بالشهداء" وأبنائهم وبالمصابين، والكثير من المشاريع الكاذبة التي تستثمر السيدة الأولى من خلالها أوجاع أتباعها لتحولها إلى مصعد ينقلها في كل مرة إلى طابق أعلى كما تظن.

كل ذلك كان كذباً اعتيادياً ودعاية رخيصة، ولكن الكذبة اليوم هي كذبة مركبة فيها من المزايدة المفضوحة ما قد يكون سبباً حقيقياً لثورة، -لو أن ثمة قدرة لدى الشعب على القيام بثورة- نظراً لكمّ السخرية والاستهزاء المضاعف بعقول السوريين.

كان على السيدة الأولى أن تنتظر قليلاً قبل أن تطرح هذا المشروع، بالحد الأدنى إلى حين البدء بإعادة الإعمار واستقرار الليرة وزيادة مرتبات السوريين بحيث تصبح كافية لنصف شهر، كان عليها أن تنتظر إلى حين توفر الأدوية الأساسية وتقليص أعداد متعاطي المخدرات، واختفاء ظاهرة التنبيش  في حاويات الزبالة من قبل الكثير من المعدمين للبحث عن مخلفات الأغنياء لكي يسدوا بها رمقهم، كان عليها أن تنتظر إلى الوقت الذي تخف فيه حاجة السوريين لمساعدات أقربائهم المغتربين، باختصار كان عليها أن تفعل أي شيء لتأجيل طرح مشروعها المخملي إلى الوقت الذي لا يشكل طرحه سخرية مقصودة من السوريين.

يتوجه مشروع سيدة الوطن في أحد جوانبه للخارج، للغرب تحديداً، لمغازلته ونقل رسالة مفادها أن سوريا تنافس أكثر دول العالم تطوراً وحضارة بفضل وجود زوجة الرئيس المنفتحة على الحياة العصرية والمتقدمة والمتطورة، وقد قالتها أسماء الأسد صراحة حين تحدثت عن مدى صعوبة هذا المشروع الخاص بالكشف المبكر عن الإعاقات السمعية للأطفال حديثي الولادة، حتى في الدول المتقدمة، فما بالنا ببلد تعرض لحرب كونية على مدار اثني عشر عاماً.

سيفجر مشروع سيدة الوطن سؤالاً بديهيا في هذا السياق: لماذا علينا تجنب الإعاقات السمعية في سوريا؟ ولمَ على الأجيال الجديدة أن تسمع؟ وما الذي ستسمعه؟ أليس من الأفضل أن يخلق جيل كامل فاقد للسمع على أن يكبر وهو يتربى على سماع الأكاذيب التي يطلقها السيد الرئيس وزوجته وحاشيته؟ أليس الصمم في سوريا أفضل من تشويه الأذن والعقل والذاكرة وحشوها بكل الروايات المزيفة والمشوهة لإنتاج مجتمع أكثر تشوهاً وتخلفاً وطاعة وذلاً؟

أليس الصمم أيتها السيدة الأولى أهون ألف مرة من سماع أصوات صواريخكم وبراميلكم المتفجرة، وصوت إهاناتكم وشتائمكم وصراخكم وإذلالكم وأوامركم وأصوات الأغاني الممجدة لكم والخطابات المنافقة، أليس الصمم أهون من سماع أصوات أبواقكم الإعلامية وهتافاتكم في مسيراتكم المؤيدة؟ أليس الصمم أهون من سماع أنين الحقيقة وهي تدهس بجنازير دباباتكم وتذاب بأسيل حقدكم وانتقامكم؟ 

ألم يُصب الشعب السوري كله بالصمم المبكر منذ اللحظة التي اغتصب زوجك فيها السلطة، منذ اللحظة التي اغتصب فيها سوريا ووصل صوت أنينها إلى الفضاء ومنعتم السوريين من سماعه..

أليس الصمم أسهل من الموت قهراً لدى استماع السوري لخطابات زوجك وحواراته التلفزيونية ونظرياته الفلسفية وبرامج الوقاحة والصفاقة التي يصنعها محلّلوكم السياسيون المرتزقة ويحشون بها آذان الشعب والتي تشكل خطراً على القلب ذاته وقد تصيب المستمع بالذبحة الصدرية؟

ألست أنت وزوجك مصابين أيضاً بالصمم؟ كيف لم تسمعا أصوات ملايين السوريين على مدار اثني عشر عاماً وهي تهدر مطالبة بالحرية والكرامة وبرحيل زوجك لإنقاذ سوريا؟

لقد أشارت السيدة الأولى إلى أن الشخص المصاب بالصمم سيكون أبكم أيضاً، أليس ذلك أفضل من أن يخلق الطفل سليماً ثم يفقد القدرة على الكلام على أيديكم يا سيدة الياسمين؟

أليس كل الذين يعيشون تحت سلطتكم صماً بكماً وعمياً أيضاً سواء أكان ذلك بإرادتهم أم رغماً عنهم؟

ألست أنت وزوجك مصابين أيضاً بالصمم؟ كيف لم تسمعا أصوات ملايين السوريين على مدار اثني عشر عاماً وهي تهدر مطالبة بالحرية والكرامة وبرحيل زوجك لإنقاذ سوريا؟ هل تسمعان أنت وزوجك صرخات المهجرين والمعتقلين والتائهين والتي لا تزال تصدح في أصقاع الأرض بحثاً عمن يسمعها؟

هل انتهت كل مشكلات الشعب السوري وبقي علينا فقط الكشف المبكر عن الإعاقات السمعية لدى حديثي الولادة يا أيتها السيدة الياسمينية رغم أن كل مجتمعكم المتجانس أصم وأبكم من دون أن يكون لديه إعاقة.

لو كنت مكان السيدة الأولى لطلبت العمل على الكشف المبكر عن الصحة السمعية لدى أي رئيس يريد أن يستلم السلطة وجعلت ذلك شرطاً أساسياً لقبول ترشحه لرئاسة سوريا.

أخيراً، فإنه لمن المثير أن يكون اهتمام أسماء الأسد بهذا الموضوع بالذات (الكشف المبكر عن الإعاقات السمعية) ناتجاً عن تراوما (صدمة) متعلقة بكونها من عائلة (الأخرس).