السياسة والقبيلة والدولة الوطنية

2023.07.07 | 06:59 دمشق

السياسة القبيلة والدولة الوطنية
+A
حجم الخط
-A

يختلف مفهوم السياسة بين ثقافة وأخرى، كما أنه يختلف داخل الثقافة الواحدة من زمن إلى زمن، وبين ظرف وآخر.. فلم يَسُدْ مفهومٌ واحد للسياسة عبر التاريخ إلا عند تغوّل ثقافة على ثقافات أخرى، كما هو الحال في زمننا حيث تسود المفاهيم الغربية على ما عداها مخترقة ثقافات العالم شرقا وغربا.

فإذا كانت ثقافة الجماعة تحدد فضاء وإطار كل مصطلح فإن الظرف هو من ينتج المصطلح، يستوي في ذلك مصطلح السياسة الذي يتحدد مضمونه تبعا للظرف الذي وُلد فيه..

فلو تتبعنا مصطلح السياسة في ثقافتين فحسب، العربية واليونانية، لوجدنا أن كلمة سياسة في العربية تعود إلى فعل سايسَ، فهي تخصّ فاعلاً أو جهة تتعامل مع فرد أو جماعة بحكمة ولين، عبر كلام أو صمت، ولكن أيضا بدهاء أو خداع وغالبا ما نتج عن هذه السياسة جماعة خانعة راضية بحسب دهاء المسايس الحاكم.

أما مصطلح السياسة في اليونانية فهو مشتق من polic أي المدينة أو من الجماعة في حالة العمران والاستقرار، ولربما كان المصطلح يضمر رؤيا أوسع من المصطلح في معناه العربي، فهو يحيل إلى رعاية المدينة تنظيمها وإدارتها وتنميتها..

هذا ما يخص تاريخ المصطلح، في ثقافتين، ولو مضينا في تتبع الممارسة في حيز انتشار العمران والقبيلة العربيين لعثرنا على ما يؤكد تأثر الممارسة بالمفهوم، بل لاكتشفنا أن المفهوم وُلد أصلا من الظرف وهنا نقصد ظرف المجتمع القبلي..

إن مكونات القبيلة الأهم هي العصبية والولاء والسلوك الجمعي.. هذه المكونات سنجدها في أكثر الدول الأوروبية تقدما وقوة.. وهي مكونات لو وسّع نطاقها ليشمل الانتماء لبلد كامل مثل سوريا مثلا، لأمكننا بناء وطنية سورية مستقرة

عُرف عن العرب الحكمة فيما يتعلق بتنظيم العلاقات بين القبائل - الدول، وفي داخل القبيلة ما بين عشائرها وأفخاذها وأفرادها، فكل فرد في القبيلة يمثل كل القبيلة، هذا ما يوحي به قانون الثأر على الأقل، وهو ما يعني تساوي أفراد القبيلة فيما يشبه مواطنة قبلية، وفي حال نشب نزاع داخل قبيلة أو عشيرة فهناك "العارفة" الذي يستمع للشكاوى ويحل ما استعصى من الخلافات بما يرضي الجميع..

إن مكونات القبيلة الأهم هي العصبية والولاء والسلوك الجمعي.. هذه المكونات سنجدها في أكثر الدول الأوروبية تقدما وقوة.. وهي مكونات لو وسّع نطاقها ليشمل الانتماء لبلد كامل مثل سوريا مثلا، لأمكننا بناء وطنية سورية مستقرة، وكذلك الحال بالنسبة لبلاد عربية أخرى، فلا وطنية حقيقية من دون عصبية وولاء للوطن واشتراك في سلوكيات ورأي عام متناغم..

يذهب غير قليل من الباحثين ومنهم الباحث عبد العزيز الحيص إلى أن "القبيلة" لا ينبغي أن تدخل العملية السياسية كـ"قبيلة" باعتبار أن التكتّل القبلي قادر على التحشيد والتأثير في قطاعات واسعة من الشّعب وتغيير خريطة القوى على أسس غير ديمقراطية، مما يعطّل الممارسة الديمقراطية ويُبعدها عن تحقيق أهدافها.

وإذا كان هذا الرأي صائباً فإنه كلما شابه النمط القبلي في التحشيد والتأثير وجبَ استبعاده من العملية السياسية، أقصد بذلك الدخول والمشاركة في العملية السياسية على أسس طائفية وقومية... الأمر الذي نجد خلافه بحجة مشاركة مختلف المكونات..

يرجع التنظيم الاجتماعي الإنساني الأول إلى القبيلة، فكل الأمم مرت بالمرحلة القبلية ومعظمها عبرتها إلى مرحلة القبائل المستقرة على ضفاف الأنهار أو سواحل البحار لتمارس نشاطات معيشية إضافية إلى جانب النشاط الأساسي للقبيلة، والضروري للبشر عموما (إنتاج الألبان واللحوم والصوف).

تنتظم القبيلة في عشائر وأفخاذ وبطون وعائلات كبيرة، وهذا التقسيم الهرمي حيوي ومهم جدا لسير حياة القبيلة ومعرفة طباع مكوناتها وميزاتها وأعمال كل منها بحسب مناطق ارتحالها واستقرارها، وزعيم القبيلة يعرف قبيلته بعمق وهو على تواصل مستمر مع وجهائها وكذلك مع أفرادها من دون تمييز، وهذه السياسة الفطرية العادلة تحتمها ظروف الطبيعة والمعاش..

والحقيقة وعلى خلاف من يذهب للطعن في القبيلة لكونها لم تستطع التواؤُمَ مع نظام الدولة الوطنية العربية، فالمشكلة ليست في القبيلة بل هي في نظام الدولة المستورد الذي لم يولد ولم يستولد تلبية لحاجات البيئة العربية من حيث التحدي والضرورة التاريخية..

فلقد مارست الدولة الوطنية عكس ما نادت به من شعارات تقدم وتحرر وتنمية، فإذ بها دولة تأخر وتخليف وقمع وإفقار، وفوق ذلك دولة مرتهنة للخارج تمتص ثروات البلاد وتحولها إلى الخارج بالتضامن بين النظام "الوطني" وأوليغارشية محلية تابعة له..

إن على الدولة الوطنية العربية أن تراجع حساباتها وتجري تعديلات جوهرية في بنيتها وأدائها لو أرادت الاستمرار، وأول ما يجب عليها النظر فيه هو نظام العدالة والتنمية المغيّبين تماما عن هذه الدولة.

إن على الدول الوطنية العربية لتصبح دولاً راسخة نافعة لشعوبها أن تتحول من دولة الوطن-الزعيم إلى دولة المواطنين، وأن تتحول من دولة وطنية إلى دولة "مواطنية"، ونظام القبيلة ينفعها هنا، فلها أن تستفيد منه لتحدث توافقا وتفاهما ما بين القاعدة والرأس، ما بين الوظيفة والمشروعية، ما بين المجتمع والتمثيل في الدولة، وما بين البنية والكيان، حسبُنا أن دولة عربية حديثة أو أكثر، قد قامت على نظام القبائل فلم تتجاوزه تكبراً بوهم الحداثة، كما فعلت دولٌ عربية أخرى ادّعت قبل نصف قرن التقدمَ والاشتراكية ومحاربة التخلف والرجعية، فإذ بها دمرت شعوبها وأعادتها إلى البداوة الرثة قسراً..

وعلى خلاف دولة البعث والأسد ها هي دولة خليجية معروفة كانت قبل نصف قرن صحراء، قامت بتحديث كل شيء فيها من دون ضجيج أو ادّعاء ومن دون تجاوز لنظام القبيلة بل استلهمت منه الكثير، فحققت ما حققته المعجزة اليابانية من قبل: الحداثة الشاملة إلى جانب المحافظة على القيم الاجتماعية وعلى التراث ومصالح الشعب.

من يريد أن يبني لا يهدم ما لديه ومن يريد أن يحدّث ما لديه يستطيع أن يجد أسلوبا وطرقا للتحديث من دون تشويه وتخريب وإذلال..

وهذا النموذج العربي الناجح استطاع اجتراح نموذج عربي أصيل هو نموذج القبيلة الدولة الحديثة مستلهما التعريف الخلدوني للسياسة على أنها "فن صناعة الخير العام"- بتناغُم التعريف مع جذر الكلمة العربية وظرف نشأتها- كما هو تعريفٌ يَستلهم السياسة في القبيلة، إذ إنّ جميع أبنائها من شيخ القبيلة إلى وجهائها وكل فرد فيها حريص على سلامة وازدهار وكرامة القبيلة، فهنا نجد تطبيقا فعليا لمقولة "الواحد للكل والكل للواحد" - وهو شعار متداول كثيرا في دولة أوروبية حديثة وقوية مثل ألمانيا..

فمن يريد أن يبني لا يهدم ما لديه ومن يريد أن يحدّث ما لديه يستطيع أن يجد أسلوبا وطرقا للتحديث من دون تشويه وتخريب وإذلال..

إن سياسة دولة يمكن أن تعيدها إلى مرحلة القبيلة وتعيد شعبها إلى البداوة، كما أن سياسة قبيلة يمكن أن تجعل منها دولة نموذج في عصر العولمة يحلم كثيرون بتقليده..