السويداء وخيار العَلمانية والمواطنة

2023.10.24 | 06:07 دمشق

آخر تحديث: 24.10.2023 | 06:07 دمشق

السويداء وخيار العَلمانية والمواطنة
+A
حجم الخط
-A

تبرز مدينة السويداء اليوم كظاهرة سورية مميزة تتركز عليها الأنظار المحلية والعربية والدولية. فهي المدينة ذات الغالبية العظمى من الأقليات السورية المعروفة بالموحدين "الدروز"، تجتاحها حمّى التظاهر السلمي والمدني متجاوزة الشهر الثاني على التوالي دون كلل أو ملل. تظاهراتها الشعبية الواسعة ذات عناوين سورية متعددة، فهي:

- سياسيًا استحقاق التغيير السياسي على المستوى الوطني العام وفقًا لمخرجات القرار الأممي 2254/2015 القاضي بمرحلة انتقالية تقودها حكومة وطنية مؤقتة.

-  ومعرفيًا الحرية والسلام والحق المدني العام.

- وجوديًا مساواة السوريين جميعًا في الحقوق والحريات لا يفرق بينهم عرق ولا دين ولا جنس، تجمعهم دولة المواطنة والحق والقانون.

المميز في هذا أنه ليس إعلان سياسي أو شعار نظري، بل هو محتوى ومكنون مجتمعي يعبر عن جذر العَلمانية بمفاهيمها وممارستها العصرية.

التوزع الأفقي للحقوق العامة يجعل من نظام الحكم انعكاسًا لبنية العلاقات الاجتماعية دون فوقية أو تعالٍ، ودون إنكار لدين أو فكر أو حق مدني

هنا من المهم بمكان إلقاء الضوء المعرفي على البنية المجتمعية والأهلية للمجتمع في محافظة صغيرة كالسويداء، والتي عبر عنها بوضوح الرئيس الروحي لهذه الطائفة، الشيخ حكمت الهجري، بقوله إنه عَلماني، وأنه يمارس حياته كرجل دين روحاني، فيما العمل السياسي لأصحابه، داعيًا أبناء الوطن السوري جميعًا للعمل معًا على بناء دولتهم الوطنية بعيدًا عن الاستبداد والفساد والتحكم برقاب العباد. وهذا القول في طياته يعكس المفهوم الحديث للعَلمانية المتحققة حياتيًا في عوالم الغرب المتقدم. ففي كتابه "العصر العَلماني"، يعرف تشارلز تايلور العَلمانية بأنها "الانتقال من الترتيب الهرمي للروابط الشخصية إلى الترتيب غير الشخصي القائم على المساواة. من عالم عمودي العلاقات عبر وسيط إلى مجتمعات الوصول الأفقي المباشر. فالكلّ على مسافة متساوية من المركز، ونحن على تماس مباشر مع الكل". وهذا التوزع الأفقي للحقوق الإيمانية المتوازية والحقوق المدنية والسياسية المتساوية يختلف اختلافًا جذريًا عن الهيمنة والسلطوية الشاقولية. ويتجاوز المقولة النظرية السائدة بأن العَلمانية هي فصل الدين عن الدولة والسياسة وكفى. فعلى أهمية هذه الجملة، لكنها بذات الوقت لا تتيح المحتوى النقدي لمفهوم السلطة، ومن يمارسها وكيف يمارسها. فالتوزع الأفقي للحقوق العامة يجعل من نظام الحكم انعكاسًا لبنية العلاقات الاجتماعية دون فوقية أو تعال، ودون إنكار لدين أو فكر أو حق مدني. فالكل متساوون أمام القانون، وكلٌ يعمل في مجاله لبناء المجتمع بعيدًا عن اختزال العَلمانية الخاطئ معرفيًا وسياسيًا في محاربة الأديان وحسب.

العَلمانية وفقًا لهذا التحديد المفهومي وممارستها العملية، متوطنة في السويداء بخلاصتها العامة، فمحتواها الثقافي والحياتي يعترف بالتعدد الثقافي وممارسة الحرية في الإيمان والتدين دون أن تتعارض في ذلك مع المجتمع بقواه المدنية والسياسية والبشرية ودورها في البناء المجتمعي. وهذا ما يمكن الدلالة عليه بالمعطيات العامة لأبناء هذه الأقلية، غير المعروفة جيدًا لمحيطها العربي والإسلامي، فالسويداء:

• ذات تركيبة سكانية مدنية بعمومها، تعرف بأنها أقلية معروفية تدين للمذهب التوحيدي المعروف بـ"الدروز". وهو مذهب معتدل دينيًا يقبل مختلف أنماط التعدد الثقافي والديني، وأيضًا مذهب غير تبشيري لا يفرض تدينه وممارسة طقوسه حتى على أبناء جلدته.

• الموحدون ذو منهج برهاني عقلي في قراءة النص الديني والأحداث الزمنية، يحبّون الكرم والعادات العربية الأخلاقية والتعايش السلمي مع محيطهم، ويكرهون الحرب إلا إذا فرضت عليهم، وهذه قيم إنسانية حقوقية عليا. تمثلت بموقفهم العام باستقبال النازحين السوريين من كل المدن السورية بأعداد هائلة، ورفضهم الخوض في المعارك الدموية التي اجتاحت كامل الأرض السورية بعد عام 2013 من خلال سحب أبنائهم من الخدمة الإلزامية بعشرات الآلاف، معلنين حرمة الدم السوري. واليوم يطالبون بالتغيير السلمي للسلطة السياسية القائمة.

• السويداء محافظة قليلة العدد سكانيًا (قرابة 550 ألفا حسب إحصائيات 2019 للسجلات المدنية)، وتعداد الأسرة الوسطي 4 أفراد، مهتمون بالعلم والتعليم كرأس مال اجتماعي، وهي الخالية من الأمية حسب إعلان وزارة الثقافة السورية عام 2008.

• وهي ذات النسبة الأعلى في البطالة، حيث بلغت 18.3% عام 2010 مقارنة بـ 8.4% بباقي سوريا، وتكاد تخلو من المشاريع التنموية مع تهميش اقتصادي متعمد، ما يفسر نسبة الهجرة العالية بين شبابها لطلب العمل ومصادر الدخل. واليوم زادت نسب البطالة لما يقارب 75%، بحكم الثورة والحرب والملاحقات الأمنية لشبابها. مترافق مع تراجع حاد بالدخل وارتفاع هائل في الأسعار وانهيار بسعر صرف الليرة (اليوم 14000 مقابل الدولار) ما يعني أن راتب الموظف يعادل وسطيًا 15 دولارا شهريًا، (وهي دون خط الفقر العالمي بكثير والمحدد بـ 1.9 دولار للفرد يوميًا أي 57 شهريًا).

• رغم حياد السويداء الإيجابي من المقتلة السورية، لكنها تعرضت للتطرف الداعشي عام 2018 تصدت له أهليًا بمفردها مع شكوك واضحة حول دور النظام في ذلك. كما واُستثمر في عطالة بعض شبابها عن العمل في الترويج لتجارة المخدرات، ومع هذا قام المجتمع الأهلي بمحاربة هذه الظاهرة باجتثاث أخطر عصاباتها صيف عام 2022، وحرق مقارها وإثبات تبعيتهم للأجهزة الأمنية.

الانفتاح والاستحقاق والجدارة عناوين رئيسية في التحضر والتمدن تستهدف القدرة على الحياة بكرامة وسلام، وتستوجب العمل بطرق متكاملة فكريًا وسياسيًا واجتماعيًا

انبعاث السويداء اليوم هو متابعة لموجات الربيع العربي سوريًا الذي بدأ عام 2011، في قيمه الوطنية والتنويرية. ومكنونها الوطني والاجتماعي يخطو بثبات متابعًا مسيرة السوريين في استحقاقهم الوطني. لتظهر العَلمانية والمدنية والسلمية أبرز خصائصها العامة، فنساؤها وشبابها يقدمون إبداعاتهم الفنية والفكرية والثقافية، يجاورون فيه المجتمع الأهلي والديني على أسس التكامل والمساواة الأفقية في الحقوق. الأمر الذي يتوجب إعادة التفكير مجددًا في معطيات هذه البنية السورية بمحتواها الاجتماعي القائم فعليًا، والذي قد ينتج عنه تغيّرًا في العناوين السورية السياسية المتفانية مثنويًا بين أطياف معارضتها السياسية. ويتيح مساحة واسعة للعمل الوطني والتوجه بثقة ناحية العلمانية المتوطنة اجتماعيًا في السويداء كنموذج لسوريا المستقبل، والعمل على إعادة إحياء قيم ثورة الحرية والكرامة الأولى. ليثبت الزمن أنها قابعة في الوجدان السوري العام رغم ما أصابه من كوارث ونكبات. فالانفتاح والاستحقاق والجدارة عناوين رئيسية في التحضر والتمدن تستهدف القدرة على الحياة بكرامة وسلام، وتستوجب العمل بطرق متكاملة فكريًا وسياسيًا واجتماعيًا.

لطالما عقدت الندوات السياسية والفكرية حول سوريا المستقبل، ولطالما اشتد الخلاف حول نموذجها السياسي في الحكم، لكن قلما تم تناول البنى المجتمعية السورية في معطياتها القائمة كدليل عمل منهجي. اليوم السويداء بمكنونها الاجتماعي والوطني عَلمانيًا ليست استثناء سوريا، بل هي نموذج سوري شعبي عام تمكن من الإعلان عن نفسه وضوحًا، دون نظريات جامدة أو تنافس سياسي هدّام، ودون نزعات استحواذية تسلطية لاستبدال سلطة بأخرى، فهل نتمكن من إحياء هذا الاستحقاق سياسيًا واجتماعيًا؟ كلنا أمل...