السوريون بين كوارث الطبيعة والسياسة

2023.02.08 | 06:05 دمشق

السوريون بين كوارث الطبيعة والسياسة
+A
حجم الخط
-A

رغم كل التقدم العلمي الهائل الذي تعيشه البشرية في العصر الحديث، لكن ما زال للطبيعة قوتها وجبروتها. لم تزل الطبيعة إن أرادت التوازن أحدثت فواجعها ونكباتها في حياة البشر عواصف وزلازل وبراكين.. وربما نيازك قادمة..

بالأمس ضرب غضب الطبيعة شمال غربي سوريا وجنوب شرقي تركيا، الزلزال الأقوى من نوعه منذ قرابة 90 عامًا بحسب وكالات الأرصاد التركية. الزلزال الذي طال الأتراك والسوريين، المُهّجر والنازح منهم في إدلب وشمال حلب، ومن تبقى منهم في بيوتهم في الساحل وحلب وحماة. الزلزال الذي دمّر مئات البنايات وأعداد قتلاه في تزايد، وكل ساعة يتم الكشف عن مزيد منهم. منهم من نعرفهم شخصيًا ومنهم من عرفناهم عن بعد. لكنهم جميعًا سوريون قبل كل شيء، مكلومون موجوعون جميعًا، ووجدانهم الطيب يردد أي ابتلاء نعيش!

اجتاحت السوريين طوال 12 عامًا قضت شتى أنواع الكوارث، لكنها أبدًا لم تكن طبيعية لا راد لها. بل كوارث بفعل البشر كان يمكن درؤها

السوريون اليوم يتنادون من كل جهة يتعاونون بما استطاعوا من إمكانات قليلة وأدوات ضعيفة، مبادرون ومستعدون للتعاون فيما بينهم لدرء آثار الزلزال بحدودها الدنيا بغض النظر عن أي انتماء سياسي فُرض عليهم قسرًا أن يكونوا مهجرين "معارضين" أو قاطنين "موالين"، فمصابهم اليوم واحد وقد تساوت خواطرهم ولكن للأسف مساواة موت وقهر. ومن هنا نصحو مجددًا على كارثة لم تنتهِ بعد!

اجتاحت السوريين طوال 12 عامًا قضت شتى أنواع الكوارث، لكنها أبدًا لم تكن طبيعية لا راد لها. بل كوارث بفعل البشر كان يمكن درؤها، كان يمكن عدم حدوثها وتدارك نشوبها. كوارث السياسة والنفس الأمارة بالسوء وشهوة السلطة. النفس الكارهة التي حولت سوريا لسيل من المهجرين من بيوتهم يسكنون خيم اللجوء، وآخرون يبحثون عن دول تحتويهم وذويهم من لعنات الموت الداخلي، أو عن حياة آمنة لهم ولأبنائهم في دول العالم بعد أن استحالت سوريا لبلد خراب وموت. وسوريون يعيشون في الداخل تحت وطأة أشد الظروف السياسية والاقتصادية الضحلة. سوريون لا تكفيهم رواتبهم شراء وجبة "المجدرة" الحاف (وكلفتها الشهرية نصف مليون بلا لبن أو "قلية" البصل)، ومن دون فطور أو عشاء! سوريون فرقتهم السياسة بين معارضٍ وموالٍ، ويا لبئس التصنيف! في حين أن الحق والحقيقة أن كل السوريين معارضون للظلم والقهر والاستبداد لتلك النسبة الضئيلة منهم التي مارست وتمارس شتى صنوف الصلف والتعنت والظلم والسحق السياسي للطرف الآخر وأي مختلف عنها. ساسة سلطات الأمر الواقع، من ساسة سلطة النظام وأجهزته الأمنية وتابعيهم من الميليشيات الدخيلة على النسيج السوري. وساسة سلطات الدين الزائف، وساسة سلطات الارتهان والتبعية للأجندات الخارجية. وحقيقة يدهشنا تسميتهم بالسوريين وهم من كان السبب في كوارثنا السياسية والوجودية والمجتمعية! لكنهم للأسف سوريون، لم يتمكن القانون من محاكمتهم ومقاضاتهم لليوم.

كوارث السوريين الطبيعية اليوم تشد أزر بعضهم بعضا، تقربهم للالتمام حول جراحهم، حول مصابهم العمومي وقد أصاب الجميع بلا استثناء ممن يصنفون معارضة وموالاة. وهذا التصنيف أصل كوارثهم السياسية والمجتمعية لليوم. التصنيف الذي حول سوريا لشبه دولة، بل شبه دويلات، بل مجرد مواقع لممارسة سلطات الأمر الواقع نفوذها وسطوتها على البشر والعباد، وكل جهة تستقوي بحليفها الدولي والإقليمي ضد البقية حتى من أبناء جلدتها المفترض أنها تمثلهم. فسلطة النظام لا تتأخر، ولم تتوانَ يومًا، عن ملاحقة كل من يقول لها "لا أريد حقي"! تعتقل، تقتل، تهجر، تسطو على أملاك وأرزاق الناس وتاريخهم وحاضرهم! ولا تتردد أبدًا بالتخلص حتى ممن تسميهم موالاة لها حين يبدر منهم ولو أنّة تململ أو رفض أو شبهة التفكير في نفسه في قولها، والشواهد بالجملة ممن انتحروا بعشرات الطلقات! فكيف يصنف من يعيشون في ظلها بالموالين!

سوريا المكلومة بكل لعنات التاريخ ومكر السياسة، سوريا الموجوعة بتولية شؤونها لكل دخلاء ومارقي العصر، وعصابات وتجار الحرب والبشر والمخدرات، وسياسيي النقمة والعهر والمكر سلطة ومعارضة، ودول سمّيت زيفًا دول المحور والمقاومة والجيوبولتيك الشائن والقاتل، ودول سميت أصدقاء شعب ترك يواجه محنه وكوارثه، وليس فقط تنتقي وتصنف بحسب مصالحها من دون أن تقوم بأقل ما يجب أن يقوم به الصديق. فعن أي أصدقاء للسلطة يتحدثون؟ فروسيا وإيران التي لا تقدم صهريج وقود إلا بعد أن تنفذ لها السلطة طلباتها السياسية والاقتصادية بالإملاء، وتشغل سماسرتها في ذلك، والأرباح يتقاسمها أزلامها والشعب المسكين المصنف مواليًا يدفع الفاتورة! وأي أصدقاء للشعب السوري الذين يديرون لعبة السياسة لجني أموال الدول المانحة ولا يصل منها للشعب السوري سوى الفتات، وإلا لمَ كل هذه الملايين بلا مأوى لليوم؟ ولم لم يلتزموا بالحلول التي اقترحوها للشعب السوري منذ عقد ونيف في جنيف وغيرها!

نحن السوريين لا نستعدي دولة ولا شعبًا، ولا نريد سوى الخير، لكن تعبنا وأنهكنا، وحقنا أن ننفس عن احتقاننا ونقول الأشياء بمسمياتها. فالسوريون الطيبون ممتنون لكل من قال كلمة طيب من قال كلمة "معلش"، ولكن تعددت فواجعنا وكوارثنا وما عدنا نعرف من أين نصدها عنّا. فهل هذا ابتلاء من الله؟ أم هو ابتلاؤنا بسياسيي البشرية التي لا ترحم وقد التقت جميعها، ومن كل الجنسيات، على أوجاعنا وكوارثنا وتقاسم بقايانا؟

زلزال اليوم يقول ما زال في القاع وجدان قادر، ويمكنه تعديل كفة كوارثنا السياسة، فقد بلغت الأمة أسفل درك لها في سلم الحضارات

غياب دولة الحق والقانون هو لغز وسرّ كوارثنا واحترابنا المضني لليوم، منذ معركة صفين والاحتراب على أحقية الحكم، وما تلاه من حكام وامبراطوريات لم ترتقِ لمصافّ الدولة بأسسها الأولى: الأمان والعدل وحرية الإيمان، وذلك بغض النظر عن الأسس العصرية المعاشة اليوم من حريات فردية وشخصية تتعلق بالرأي والفكر والعمل، والتي توازي تلك الأولى في الحقوق العامة كحقوق متساوية في المواطنة. والسوريون اليوم بشتى تصنيفاتهم الموهومة والزائفة عليهم التنكر لكل ما يفرقهم وخاصة سياسيي الاحتراب على السلطة وأهلية حكم فلان وعلان، وما جلبتها من سياسة تغيّب العقل والإحساس ببعض، وزلزال اليوم يقول ما زال في القاع وجدان قادر، ويمكنه تعديل كفة كوارثنا السياسة، فقد بلغت الأمة أسفل درك لها في سلم الحضارات.

لحكمة في الكون، ليس للطبيعة عين ترى ولا قلب عطوف، فهي تغضب وتزلزل الأرض وتسبب الكوارث بين حين وآخر، لكنها تأتي بالمطر، بالخير، بالربيع والصيف، وتتوازن بذاتها ولذاتها، فتستمر. وللبشر عينان ترى وقلب وأذنان تسمع، ولليوم لم تعملها كما يليق بها أن تكون ذوات مفكرة وعاقلة. فإن تغلبت شهوة القتل والدفن عمدًا وممارسة سياسات أشدّ هولًا وكارثية من كوارث الطبيعة ولا تعرف كيف تتوازن، كيف تعود للخير مجددًا عند أصحاب السلط والسلطات، فهذه السياسة ما يجب دفنه مع زلازل اليوم. فكما حددنا نحن السوريين، أن زلزال الطبيعة وحّدنا وجدانيًا، فزلزال السياسة فرّقنا وشتتنا وجلب لنا كل ويلات الكون وشدائده، وآن أوان توحدنا مرة أخرى وقد عرفنا وتيقنا سبب حدوثه.