السوريون بين الزلزال والعدمية السياسية

2023.03.02 | 06:12 دمشق

السوريون بين الزلزال والعدمية السياسية
+A
حجم الخط
-A

تُحدث الكوارث الطبيعية خللاً مفاجئاً في التوازن الطبيعي للحياة، وتؤثِّر سلباً على الموارد والمصالح الحيوية، وقد تترك هذه الكوارث آثاراً اجتماعية ونفسية عميقة تستمرُّ عبر الزمن في حياة الشعوب المنكوبة، إضافة إلى آثارها التدميرية الهائلة، كما هو الحال في زلزال هيوان في الصين عام 1920م، وفيضانات الصين عام 1931م، وزلزال هاييتي عام 2010م، وقد يكون آخرها الزلزال الذي وقع في السادس من شهر شباط الجاري، إذ ضرب الزلزال جنوبي تركيا وشمالي غرب سوريا، وخلَّف آلاف الضحايا، وعشرات الآلاف من الجرحى، ممَّا زاد من معاناة السوريين داخل سوريا وفي تركيا، فمن المعروف أنَّ المناطق التي طالها الزلزال (الولايات العشرة) تعدُّ مركزاً لتجمُّع اللاجئين السوريين في تركيا.

السوريون وتجاذبات السياسة التركية

قد لا يختلف حال السوريين الذين طالتهم تأثيرات الكارثة في تركيا عن أقرانهم الأتراك، من ناحية الأثر التدميري الذي طرأ على حياتهم وعائلاتهم، إلا أنَّ معاناة جديدة أُضيفت إلى معاناة لجوئهم، فقد خسر الكثير منهم أعمالهم التي هي في أغلبها مشاريع شخصية صغيرة وغير مدعومة أو ممولة من الحكومة في تركيا، ممَّا يصعِّب مهمة عودتها من جديد، وهذا الأمر دفع بعض اللاجئين السوريين للعودة إلى شمالي سوريا، لاسيما في ظلِّ اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في تركيا، وتزايد الأصوات العنصرية الرافضة لوجودهم، حيث يُعتقد أنَّه بحال وصول المعارضة التركية إلى الحكم سيكون من أولوياتها إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، خاصة وأنَّها تملك علاقات يمكننا وصفها بالجيدة مع النظام السوري الحاكم.

وقد نشطت في الأشهر الأخيرة سياسة ترحيل اللاجئين السوريين والتي تحدَّث عنها المحلل السياسي وعضو حزب العدالة والتنمية يوسف أوغلو، قائلاً إنَّ المعاملة السيئة من قبل الشرطة التركية للاجئين السوريين بما في ذلك الترحيل القسري مردُّه الانتماءات السياسية لهؤلاء الضباط، وأنَّهم يعملون وفق أجندات المعارضة وليس الشرطة أو الحكومة، الأمر الذي سبَّب خوفاً لدى اللاجئين على مستقبلهم الذي تحوَّل إلى ورقة سياسية بين الأحزاب التركية.

من الكارثة إلى العدمية

أمَّا حال السوريين في الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام فإنَّه أكثر تعقيداً وأكثر فوضوية في ظلِّ غياب أيِّ شكل من أشكال الدولة أو المؤسسات المدنية، وسيادة سيطرة السلاح والقوة العسكرية التي تتَّبعها مختلف الفصائل العسكرية التي لم تستطع رسم ملامح حياة سياسية حقيقية في المنطقة، إضافةً إلى عدم امتلاكها بنى سياسية تنفذها على أرض الواقع، عدا حالة الاقتتال والتنافس بين الفصائل ذاتها، ولعل آخرها الصراع الذي تلا حادثة اغتيال الناشط محمد أبو غنوم وزوجته، وغيرها من الأحداث التي بيَّنت مدى وهن المؤسسات ذات الطابع المدني، وغياب الممارسة السياسية، كما أنَّ الإرادة الدولية لم تقم بتشجيع الحياة السياسية وذلك لعدم رغبتها بقيام دولة جديدة، وهذا ما اتفق عليه الفرقاء السياسيون جميعاً، فأميركا على سبيل المثال ترغب بالبقاء في شمال شرقي سوريا طمعاً بالثروات، وللحيلولة دون اتساع النفوذ الإيراني، كما أنَّ قيام دولة جديدة سيشجِّع على قيام كانتون قومي كردي على حدود تركيا وهذا ما ترفضه، وكذا الأمر سيشجع على قيام كانتون آخر جنوبي سوريا، وهذا ما لا يفضله الكيان الصهيوني، ولرغبة إيران وروسيا بتوسيع نفوذها داخل سوريا كاملة دون تجزئتها، فهذا ما حوَّل أيَّ فعل سياسي لحالة من العبثية المنفصلة عن الواقع المحكوم بقوة السلاح.

كما أنَّ غياب الممارسة السياسية في سوريا قبل الثورة نتيجة القيود المفروضة من النظام الحاكم، وحصر السياسة بحزب البعث وجبهته الوطنية جعل السوريين يتردَّدون في تكوين أيِّ هيئة سياسية أو حزبية على الرغم من بعض المحاولات (حزب العدالة والتنمية السوري، حزب نور سوريا، حزب الإسلام الوسطي، حزب الجمهورية، الحزب الوطني للعدالة والدستور "وعد"،... وغيرها) إلا أنَّها بقيت محصورة النشاط نتيجة الظروف العسكرية وعدم اعتبار الخيار السياسي أولوية، إضافة إلى ضعف التمويل، وقلة الكوادر السياسية (النخبة السياسية).

الثقافة السياسية وعدمية الدولة

في ظلِّ حالة العدمية السياسية في الشمال السوري سوف يبقى السوريون في حالة من اللافعل السياسي، ممَّا سيكوِّن عائقاً أمام حضور وفاعلية من عاد إلى سوريا؛ هرباً من الكارثة، وبحثاً عن ذاته، ولا يختلف هذا الأمر عن حال الحياة السياسية في سوريا في ظلَّ حكم النظام الدكتاتوري الذي قتل أيَّ فعل سياسي منذ وصوله للسلطة في ستينيات القرن المنصرم، فقد هيمن على الدولة بمؤسساتها وهيئاتها، ووحَّد بين الحاكم والدولة فتحوَّلت الدولة إلى سوريا الأسد على اعتبار أنَّها مُلكية عائلية لها الحق في أن تتصرف بها كما تريد، حيث لجأ النظام الحاكم إلى تشويه الثقافة السياسية في سوريا، ونشر قيم ثقافية تعزز استمراريته في الحكم تقوم في مجملها على مفهوم الطاعة وعدم الثقة الاجتماعية والشك بالآخر والتهميش السياسي والاجتماعي، وعدم الإيمان بالقانون والمؤسسات والمشاركة السياسية واعتبارها عملية لا جدوى منها، وكثيراً ما أرسل النظام رسائل تعزِّز مفهوم اللاجدوى السياسية عندما كان يلجأ إلى تحديد نسبة نجاحه بـ(99%) في الانتخابات الرئاسية الصورية.

ومنذ اللحظة الأولى للزلزال عمل هذا النظام على استغلال الكارثة سياسياً، وطالب برفع العقوبات الدولية (قانون قيصر) عنه زاعماً بأنَّه يحول دون وصول المساعدات الإنسانية والأدوية للشعب المنكوب، حيث ردَّت وزارة الخارجية الأميركية على اتهامات النظام السوري وقالت إنَّ العقوبات تتضمَّن استثناءات لا تمنع وصول المساعدات الإنسانية والطبية والغذائية وغيرها للشعب السوري، وأكَّدت أنَّ واشنطن لن تمنع أيَّ دولة من تقديم ذلك الدعم.

ختاماً:

يبدو أنَّ الكارثة الزلزالية الأخيرة وضعت السوريين بين نارين؛ نار الكارثة ومصابها من جهة والنار السياسية التي طالما اكتوى بها السوريون من جهة أخرى، هذه السياسية العدمية التي رفعت شعارها منذ اليوم الأول للثورة السورية (الأسد أو نحرق البلد)، وبذلك تحوَّل الصراع مع من يريد الخروج من "سوريا الأسد" إلى صراع وجودي، وبالتالي فهو شعار يعبِّر أصدق تعبير عن نفي تام للسياسة مقابل حضور الحرب، الحرب المطلقة التي لا تستهدف تغيير سلوك الخصم، بل إبادته ومحوه من الوجود.