الزي الرسمي للسيدات في شتاء 2023

2022.11.13 | 05:37 دمشق

الزي الرسمي للسيدات في شتاء 2023
+A
حجم الخط
-A

تقول كتب التاريخ إن النبلاء في أوروبا كانوا يتعرّون أمام خدمهم وعبيدهم لأنهم لا يعتبرونهم موجودين أو ينظرون لهم على أنهم ليسوا بشرا بالأساس. من جهتها خصصت قناة "السورية" جلستها الصباحية يوم الخميس الماضي للحديث عن "الزي الرسمي للسيدات في شتاء 2023"، وشرحت لنا خبيرة الأزياء كيف أن موضة هذه السنة تعتمد على اللونين الأبيض والأسود. أما قناة "سما" فخصصت جلستها الصباحية للحديث عن عمليات "شفط الدهون" وكيف أنها تحتاج لعميات "شد" و"نحت" حتى تكون لها نتائج إيجابية. كما اشتكى الطبيب الذي استضافته القناة من أن غالبية السوريين لا يعرفون الفرق بين عمليات "شد البطن" وعمليات "شفط الدهون". وأن هذا الخلط هو السبب في شكوى عدد من السوريين بأن عمليات شفط الدهون لا تحسّن كثيرا من مظهرهم الخارجي.

ما يجمع بين تلك الأخبار أنه تتعامل مع السوري وكأنه غير موجود، وليس لأوضاعه الصعبة وهمومه الحياتية أي معنى بالنسبة لتلك القنوات. أنها قنوات تتعرى من الأخلاق السياسية وتمارس التجاهل وعدم المسؤولية تجاه السوري بكل وقاحة. يذكر أن العلوم النفسية المعاصرة تصنف التجاهل على أنه من أكثر الأساليب غير المعلنة في إظهار "الاحتقار للآخر".

يساعد التنكّر لمشكلات السوري الحياتية والصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها السلطة الأسدية على التملص من إيجاد حلول لمشكلاته

وهذه استراتيجية معروفة تقوم على التقليل من شأن صعوبات العيش بالنسبة إلى أغلبية الناس، عبر تجاهل تلك الصعوبات والاستمرار في بث الأخبار وكأن شيئا ما لم يحدث للسوريين خلال العشر سنوات التي مضت. حتى إن الحوارات التي دارت خلال تلك الجلسات الصباحية توحي للمستمع بأن كل شيء طبيعي، وأن السوريين ما يزالون يمارسون حياتهم مثل كل الشعوب المرفهة في باقي مناطق العالم.

تأتي تلك الأخبار في إطار ما يسميه عالم الاجتماع الألماني أكسل هونيث "بالصراع من أجل الاعتراف" وهو صراع يقوم على رفض المتسلط الاعتراف بالمتسلط عليه، ولو معنويا. ويساعد التنكّر لمشكلات السوري الحياتية والصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها السلطة الأسدية على التملص من إيجاد حلول لمشكلاته، لأن هناك من يهتم بالموضة وعمليات التجميل، وهذا يعني أن السوري بخير، ومن لديه مشكلة في عدم القدرة على مواكبة مثل تلك التطورات فالمشكلة فيه، وعليه هو نفسه أن يجد لها حلا.

وهذه الفكرة معروفة في الدراسات المعاصرة للثقافة السياسية، وتقوم على دفع الناس للشعور بالدونية والذل بسبب أوضاعهم الاقتصادية الصعبة. حتى إن هذه الطريقة جعلت غالبية السوريين يشعرون بأنه من "المعيب" أن يظهر الإنسان عجزه الاقتصادي أمام الآخرين، وكأنه هو المسؤول عن كل ما حصل له. ولذلك فالناس كثيرا ما تدعي أن أوضاعها الاقتصادية بخير على عكس ما يقوله واقعها. 

ويبين عالم السياسة ليونارد بيندر أن النظام السياسي في مصر خلال الستينات والسبعينات لم يكن يسمح للمصريين بأن يعبروا عن فقرهم، مثلما اعتبر إشهار الفقر أمرا معيبا، ولا يجدر بالرجل الذي يحترم نفسه أن يتحدث عن مشكلاته الاقتصادية للآخرين، حتى لا تقل قيمته في المجتمع. هكذا أصبح المواطن الجيد هو يتقبل أوضاعه أيا كانت.

في غالبية البلدان الغربية، وهي بلدان رأسمالية يعتبرون أن فقر المواطن هو مسؤولية الدولة، ولذلك يخصصون ميزانيات من أجل مساعدته في العيش، وتطوير قدراته ومهاراته للحصول على عمل يستطيع العيش من ورائه بكرامة وكفاية. حتى إنهم يدفعون جزءا من تكاليف عمليات التجميل إذا قرر الطبيب أنها مهمة لصحة المريض. وعلى الرغم من ذلك فإنك لا تكاد تعثر على تلفزيون يروج لعمليات التجميل بتلك الطريقة السافرة التي تروج لها قناة سما السورية.

حتى المؤيد لا يستطيع إلا أن يشعر بأن مثل تلك التلفزيونات لا تكترث به، وأنها تمارس عليه نوعا من التهميش، أو "عدم الاعتراف"

ولا تقل آثار ما يسمى "اللامرئية الاجتماعية"، أو عدم رؤية حاجات ومشاعر ووضع الآخر، لا تقل آثاره السلبية عن أي نوع من أنواع القمع العنيف الذي تمارسه عادة السلطة الأسدية على السوريين. غير أن ما يميز هذا النوع من القمع المعنوي أنه يمارس بشكل أساسي ضد المؤيدين الذين يعيشون داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام ويستمعون إلى مثل تلك القنوات الإخبارية. دون أن يعني ذلك أنه حتى المؤيد لا يستطيع إلا أن يشعر بأن مثل تلك التلفزيونات لا تكترث به، وأنها تمارس عليه نوعا من التهميش، أو "عدم الاعتراف" بلغة هيغل، أو نوعا من "الاحتقار الاجتماعي" بلغة مدرسة فرانكفورت الفلسفية. حيث يعترف بالمواطن كجسد ولكن يتم تجاهل حقوقه وكرامته ومشاعره.

يشعر غالبية السوريين الذين يشاهدون القنوات السورية المؤيدة بحالة من الاغتراب النفسي المؤلم لأنهم، بكل بساطة، لا يتعرفون على ذاتهم في تلك القنوات، ولا يعثرون على همومهم ومآسيهم إلا في حدود لعبة التنفيس النفسي التي بات يقرف منها الداني قبل القاصي. إنه السوري اللامرئي، واللامرئي كما يقول موريس ميرلوبونتي في كتابه "المرئي واللامرئي" هو الذي يفرض عليه أن يعتقد بأنه شخص ليس له مكان في هذا العالم.