الزلزال السوري والجوع إلى الدولة لكن أية دولة وأي نظام سياسي؟

2023.02.11 | 06:04 دمشق

الزلزال السوري والجوع إلى الدولة لكن أية دولة وأي نظام سياسي؟
+A
حجم الخط
-A

منذ الساعات الأولى لورود أخبار الزلزال المدمر الذي أصاب أجزاء من سوريا، بدأ السؤال يفرض نفسه: كيف يمكن إيصال الدعم، أو وصول فرق الإنقاذ إلى المناطق التي تخضع لإشراف تركي، أين الدولة؟ ليته كان لدينا حكومة لكل سوريا!

لم يخطر ببالنا أن النظام السوري سيطرق باب القيم الإنسانية والأخلاقية وتكاتف الشعوب مع بعضها إبان الكوارث. تناست اليونان علاقتها المضطربة منذ عشرات السنين مع تركيا، وأرسلت فرق إنقاذ، كذلك أوكرانيا التي تخوض حرباً. لكن بشار الأسد وطاقمه لم يخطر ببالهم تجاوز الثأر والحقد نحو القيم الإنسانية؛ فبقوا ضحايا الرغبة بالانتقام والرؤية غير الاستراتيجية، مع أن هذه الكارثة الزلزالية كانت فرصة لتكون باباً للتجاوز وردم الهوة بين السوريين وفتح شبابيك من التسامح والتكافل والتضامن، إذ تتجاوز الدول والأنظمة السياسية سياساتها التقليدية إبان الكوارث وتهجع للإنسانية.

على العكس من ذلك وجد النظام الأسدي في الزلزال فرصة للمناشدة وطلب المساعدة من الجهات الدولية، أملاً منه بكسر الحصار المفروض عليه، يطلب من الآخرين ما لا يقدمه لجزء من شعبه. تلك معادلة في السياسة والأخلاق غير مقبولة، غير أن مطلبه اللاأخلاقي وجد استجابة من دول عدة تواصل معه رؤساؤها، أو وزراؤها، معزّين، غير أن أحداً منهم لم يقل له ناصحاً: لا تمنع دخول المساعدة عن جزء من الشعب السوري! أو سنقدم لك المساعدة بشرط أن ترسل جزءاً منها إلى المناطق الخارجة عن سيطرتك وقد أصابها الزلزال. أو افتح مطار اللاذقية مثلاً لنساعدك ونساعد شمال سوريا.

غدا تفسير العقوبات على سوريا بأنها تمنع دخول المساعدات إبان الكوارث تفسيراً واهياً جداً ولا قيمة له، يشبه بلاهة ضحكة بشار الأسد في اجتماع حكومته حول كارثة الزلزال

كان هناك حل آخر أمام النظام السوري بأن ينحي السياسة جانباً، ويسلم تلك المهمة إلى الهلال الأحمر السوري مثلاً، على الرغم من كل ما ينسب إليه من فساد وتغلغل مخابراتي كما يعلم المتابعون. لكنه بقي مصرّاً على تأكيد لا إنسانيته وبشاعته أمام نفسه وأمام الشعب السوري والعالم. لذلك غدا تفسير العقوبات على سوريا بأنها تمنع دخول المساعدات إبان الكوارث تفسيراً واهياً جداً ولا قيمة له، يشبه بلاهة ضحكة بشار الأسد في اجتماع حكومته حول كارثة الزلزال، حيث لا حالة طورائ أو إعلان حداد كأن الضحايا ليسوا سوريين!

لاحقاً؛ وكما يحدث كل مرة، تسيطر ميليشياته على المساعدات وتبيعها في السوق السوداء، إنها ليست مشكلة غياب النظام وضعفه، بل مشكلة أخلاق ولا إنسانية. فمن تسمح له نفسه بسرقة طعام شخص منكوب تعرض لكارثة زلزالية، فقد كل شيء ويعيش في العراء؟

في أوروبا هرعت منظمات وجمعيات سورية وأفراد لجمع اللباس وسواه، جاءت الإجابة من معبر باب الهوى سريعة: لا يوجد إمكانية لعبور شيء الآن، المعبر يخضع لمراقبة مباشرة أو غير مباشرة تركية روسية أميركية دولية...!

لجأ مهتمون إلى جمعيات تعمل في مناطق قسد، فقالوا: إنهم لا يتعهدون بذلك، فالحواجز بين مناطق قسد وسواها من أراض سورية مجاورة للمناطق المنكوبة، تدار من قبل قوات قسد وقوات تأتمر بأمر تركيا والعلاقة بينهما مقطوعة. إضافة إلى أن إدخال "كونتينرات" عبر كوردستان العراق يحتاج إلى تنسيق مع سلطاتها. حاول أصدقاء هولنديون عديدون التواصل مع الأميركيين فتبين أن الأمر معقد جداً جداً!

غابت عن مشهد الزلزال السوري مسرحية اسمها "الحكومة السورية المؤقتة" التي لا تستطيع أن تطلق تصريحاً صحفياً دون موافقة الجهة التي ترعاها، أين هي؟ ومتى يكون دورها؟ سألت صديقاً يتواصل مع عدد من أطرافها، فقال نقلاً عن أحد "وزرائها" وهو يبلع دموعه: بصراحة نحن لا حكومة ولا وزراء ولا من يحزنون، المجالس المحلية في كل منطقة من المناطق التي تديرها أقوى منا، فلا تغرك التسميات، نحن وزراء من كرتون!

قلتُ له: على الأقل يمكنهم أن يمارسوا الخجل ويستقيلوا؛ بدلاً من ممارسة الصمت الشيطاني! الخجل مهنة جميلة في الحياة وتستحق أن يوصف بها الإنسان فيقال: هذا وزير خجول أو خجلان!

في ظل غياب الخجل عند سوريين ذوي مناصب، فإن الزلزال أظهر قدرة استثنائية لفرق الإنقاذ متمثلة بالدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) من خلال العمل ليل نهار، رغم كل الظروف الصعبة ونقص المعدات الخاصة بالزلازل، لكي يلحقوا روح إنسان قبل أن تزهق، ونجح فريقه داخل سوريا وخارجها، إضافة إلى دوره الإسعافي والإنقاذي، بنقل حقيقة الوضع الكارثي وتكذيب ادعاءات المساعدات التي لم تصل، في الوقت الذي انشغل العالم بإيصال المساعدات للجيران الذين يتقاطع معهم بالمصلحة ولهم حضور في المشهد الدولي، وبرز دور فريق ملهم التطوعي وسواه بمحاولة إيواء الناجين بأقصى سرعة ممكنة، وكانت حملات التبرع والمساعدات العربية والدولية لافتة وتستحق الإشادة والتقدير، الحكوميُّ منها والشعبي.

جانب آخر أظهره الزلزال هو قدرة الإنسان السوري على تحدي الظروف وصنع مشهدية سورية لا تتكرر في التاريخ ولا تنسى: طفلة تحمي رأس أخيها بذراعيها المتعبين. وطفل يضحك لفرق الإنقاذ ويقول لهم: انتصرت على الموت. وأم تقول لزوجها الراحل: أديت واجب الأمومة، خلفتُ لك طفلة قبل أن أموت، لن يموت نسلنا، تستجيب الطفلة الجنين لرغبة الأبوين فتكمل طريق الحياة!

الإعلاميون والناشطون السوريون كان دورهم كبيراً، ينقلون الأخبار، ويتابعون التفاصيل، ويجيّشون المشاعر نحو الإنساني والأخلاقي، يكذّبون الأخبار غير الصحيحة حول وصول المساعدات، وفرق الإنقاذ، وينقلون اللحظات الإنسانية الأكثر تأثيراً، يلفتون انتباه العالم أولاً بأول ويذكرونه أن هناك شعبا مهملا "لا بكّايات له" كما يقول مثل فراتي.

نبه الزلزال السوري المجتمع الدولي مرة أخرى إلى أن قضيتنا لم يتم حلها بعد. وأن الحاجة إلى نظام سياسي ديمقراطي يدير الأراضي السورية ليس حاجة محلية بل حاجة دولية، وضرورة ألا يكون هذا النظام نظاماً دموياً قاتلاً، لا يعرف لحظة تسامح حتى في زمان الكارثة. أعاد الزلزال القول: يمكنك أن تضيع الوقت بالانشغال بإدارة ملف، بدلاً من حله إن كان قضية خلافية. أما أن تترك جزءاً كبيراً من بلد دون مؤسسات دولة فهو غير مقبول. لكن بالتأكيد لن تكون مؤسسات النظام في دمشق هي الحل والبديل. 

الحاجة إلى الدولة كبيرة، باسمها وسمعتها وقدرتها على التأثير، ما أحوج السوريين اليوم إلى دولة، الأمر أبعد من شخصية الحاكم أو طبيعة النظام السياسي. مرجع الأمر حاجتنا إلى دولة تحمل طموحاتنا وتهتم بتفاصيلنا وأوجاعنا، نحن جائعون إلى دولة، دولة نلجأ إليها لحظة الزلازل والكوارث.

 بعد أن غدا بلدنا رمزاً لأكثر البلدان فساداً وكبتاغوناً وقتلاً.. نحن بحاجة ماسة لإعادة النظر بمفهوم الدولة وآلياتها التنفيذية وشكل الحكم، ليس من الضروري الدخول في جدل طويل حول الفروقات بين الدولة والحكومة التي حددتها العلوم المختصة ومنظروها، فالدولة الكيان والتمثيل والاعتراف والسيادة والشرعية والسمعة، والحكومة جهازها التنفيذي وآلية الإدارة فيها.

ألا تعرفين يا أميركا أنه كلما بقي الملف السوري مفتوحاً أدّى إلى بروز مشكلات جديدة ليست أولها داعش ولن يكون آخرها كبتاغون بشار الأسد!

مما كشف عنه الزلزال أن الدولة ضرورة، وأن المجتمع الدولي لا يمكن أن يترك جزءاً من الجغرافيا السورية دون دولة ونظام سياسي وحكومة مركزية تدير القضايا الرئيسية. وكذلك كشف للسوريين ضرورة أن تكون هناك حكومة وهيئات تدير شؤونهم، لها علاقات طبيعية مع المجتمع الدولي والدول المجاورة، علاقات مصالح متبادلة ومنافع وليس صراعاً وتناحراً، وأن الميليشيات مهما كانت قوية هي ليست دولة ولا يمكن أن تحل محلها. وجارُكَ لن يهتم بمصائبك إن كان لديه مصيبة، ستغيب عن تصريحاته تماماً كأنك غير موجود!

لن ينقطع أملنا من المجتمع الدولي (تحديداً أميركا) في مساعدتنا على إنتاج التغيير، ونسألها: ألم تتعلمي مما فعلته في العراق حين سلمته إلى إيران أم تريدين تكرار ذلك مع سوريا لكن بإضافة روسيا إليها؟

ألا تعرفين يا أميركا أنه كلما بقي الملف السوري مفتوحاً أدّى إلى بروز مشكلات جديدة ليست أولها داعش ولن يكون آخرها كبتاغون بشار الأسد!

وللعلم يا أميركا فإن سلطات الأمر الواقع، وأولها النظام القمعي الاستبدادي في دمشق، لن تتخلى عن سلطاتها دون قوة خارجية تصفعها. أما حلم إنتاج التغيير من الداخل؛ فلن تسمح به قوى إقليمية ودولية يدرّ استثمارها في الملف السوري أرباحاً كبيرة عليها.

أخيراً نتساءل: هناك الكوارث وهناك ما بعد الكوارث، كيف يتم تعويض من فقدوا بيوتهم ومحتوياتها؟ وكيف يمكن إعادة إعمارها؟ هل اقتراح إنشاء هيئة سورية شعبية خاصة بضحايا هذا الزلزال هو الحل لتكون صلة وصل بين الأهالي والمتبرعين، أم الاعتماد على فرق المساعدة الموجودة ذات الخبرة الطويلة هو الحل الأفضل؟